الانشطار السياسي والإعلامي اللبناني الراهن الذي يعكس نفسه في أشكال ومواقع متعددة ينذر بعواقب وخيمة، ويكاد يكون غير مسبوق حتى قياساً بحقبة الحرب الأهلية المقيتة (1975 - 1990) التي انتصبت فيها الحواجز بين المناطق الجغرافية وقسمتها بحسب الطوائف ومواقع النفوذ. إنما في تلك المرحلة، بقيت ثمة خطوط اتصال خلفيّة حتى بين القوى التي تتقاتل على الجبهات. اليوم، الاتصالات مقطوعة بشكل تام تقريباً.
بلدٌ يعاني من شلل مؤسساتي وتعثر دستوري وانهيار اقتصادي وتردٍ اجتماعي وتضخم وبطالة، فضلاً عن حرب مشتعلة في المناطق الجنوبيّة مرشحة للتوسع في أي لحظة لتتحوّل إلى حرب إقليميّة مستعرة؛ ومع كل ذلك، ترى قواه السياسيّة لا تتحاور ولا تتخاطب فيما بينها، بل جل ما تقوم به هو تراشق يومي وتبادل للاتهامات في كل القضايا والملفات.
ولقد أخذ هذا الانشطار منعطفات خطيرة في الأشهر القليلة الماضية، لأنه سعى إلى إبراز تمايزات اجتماعيّة وسلوكيّة بين اللبنانيين وذهب لتصويرها على أنها بمثابة انقسامات غير قابلة للمعالجة، كأنها تجعل العيش بين اللبنانيين لا يُحتمل ولا يُطاق. ولعل هذا المنطق هو الذي يدفع في اتجاه انتعاش الطروحات التقسيميّة التي ازدهرت أثناء مرحلة الحرب الأهليّة اللبنانيّة من دون أن تشق طريقها إلى التنفيذ، فاستعادت البلاد وحدتها فور توقف المدفع وسقطت كل الحواجز المصطنعة التي أقيمت قسراً بين المناطق المختلفة.
وهنا تكمن المفارقة الخطيرة: أن يتجاوز شعب ما في أوج حقبة الاقتتال الداخلي خطر تقسيم البلاد إلى كانتونات طائفيّة ومذهبيّة ويذهب مجدداً في اتجاه وحدته الداخليّة، مقابل أن تتعالى الأصوات التي تدعو إلى «الطلاق» أو التقسيم في عز حقبة السلم الأهلي والاستقرار (حتى ولو كان هشاً).
المهم الآن هو نقاش كيفيّة الخروج من هذا المأزق المستحكم بالبلاد، في ظل شغور رئاسي تجاوزت مدته هوامش «الدلع» السياسي الذي يفترض ألا يكون موجوداً أصلاً في بلاد تعاني ما تعانيه من أزمات متراكمة ومتفاقمة. ففي ظل عدم امتلاك أي جهة سياسية أكثرية مريحة في المجلس النيابي الحالي تمكنها من انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، لا مفر من حوار أو تشاور أو تبادل آراء (وليست مهمة التسمية)، للخروج من عنق الزجاجة والذهاب في اتجاه إحداث خرق سياسي ودستوري يعيد إحياء المؤسسات الدستوريّة ويجعل عملها منتظماً ومنتجاً وفعالاً.
لبنان وجنوبه يعانيان منذ ما يزيد على تسعة أشهر من اعتداءات إسرائيلية تطال البشر والحجر، فثمة قرى في الجنوب اللبناني لم تعد صالحة للسكن بعد أن دُمر كثير من المساكن فيها، وثمة أراضٍ زراعيّة أيضاً لم تعد قابلة للاستثمار الزراعي بسبب الحرائق والتلوث المتعمد الذي قامت به إسرائيل التي لم تتوانَ عن رمي قنابل فوسفوريّة وانشطاريّة وقذائف كثيرة أخرى محرّمة دولياً.
إن تطويق الانقسام اللبناني وإعادته إلى حدوده «الطبيعيّة»، إذا صح التعبير، أي إلى الحدود المتاحة في إطار اللعبة السياسيّة التي تجيز التمايز في وجهات النظر انطلاقاً من ديمقراطيّة النظام (على هشاشته)، هو مسؤولية كل الأطراف السياسيّة التي يمكن لها تأجيل تأجيج الانقسامات حول المواضيع الخلافيّة إلى مرحلة لاحقة، ريثما تهدأ النيران في الجنوب اللبناني، من دون أن تتخلى عن المجاهرة بوجهة نظرها، ولكن أن تراعي ربما حراجة الموقف الراهن وحساسيته الشديدة، لعل ذلك يعكس نفسه في إطار من التضامن الوطني المطلوب في هذا الوقت.
من الضروري جداً أن تترفع الأطراف السياسيّة اللبنانيّة كافة ودون استثناء عن الصغائر، وأن تذهب في اتجاه بناء واقع سياسي جديد تكون البلاد مستعدة له بعد انتهاء الحرب، التي سوف تنتهي عاجلاً أم آجلاً.
التعليقات