سمير التقي

في حلبة الكونغرس بدا نتنياهو كديك رومي منتشٍ. تحدث 52 دقيقة وصفقوا له 52 مرة. ومع ذلك، ما لبثت أن عادت مياه واشنطن لمجاريها، وعاد نتنياهو لحفرته.

حصل نتنياهو في رحلته على لمحة عما ينتظره بعد الانتخابات الأميركية. فلقد جاءت رحلته بعد سنوات من الدمار الأخلاقي الإسرائيلي. وقوبل بعشرات الآلاف من المتظاهرين أمام الكونغرس وقاطعه عشرات من أعضائه.

لعله لم ينزعج أحد بقدر نتنياهو من إعلان بايدن الصادم بالانسحاب من السباق الرئاسي. فلقد أزال الإعلان الزخم من رحلته لواشنطن، ووضعه في الموقف الأكثر تعقيداً سياسياً منذ أن هزم بايدن دونالد ترامب في عام 2020. وبعدما تأخر نتنياهو في تهنئة بايدن بعد انتخابه، يُظهر ثناؤه المرتبك على بايدن عمق أزمته، ليصبح واضحاً أنه يفقد أنصاره بين الديموقراطيين.

وخسر نتنياهو أيضاً على المقلب الآخر! فعلى الرغم من جهود الجمهوريين المسيانيين لتحويل الزيارة إلى هراوة سياسية، بدا سعي نتنياهو في إصلاح علاقته بترامب واهياً. وبعد رفضه المشاركة في اغتيال سليماني، وإفساده جهود ترامب في "صفقة القرن" لإنهاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، جاءت القشة التي قصمت ظهر بعيره مع ترامب، بتقرب نتنياهو من بايدن بعد فوزه، وبعد حرب غزة. لم يفوت ترامب لحظة أثناء الزيارة ليقنص نتنياهو علناً، بما في ذلك إلقاء اللوم عليه ضمنياً على أحداث 7 أكتوبر، ولدغه أكثر عندما أخر لعشرة أيام الإعلان عن رسالة محمود عباس التي يدين فيها محاولة اغتيال ترامب، ليعلن عنها يوم اجتماعه مع نتنياهو حيث قال: "محمود، هذا لطيف جداً. شكراً. كل شيء سيكون على ما يرام".

ثم ما لبث بن غفير أن سحب البساط من تحت نتنياهو حين هدده بانهيار الائتلاف في حال قيامه بـ"صفقة متهورة". وفي ذات السياق أعلن بن غفير تأييده لترامب.

يوفر هذا التصيد المزدوج بعض الأفكار حول العلاقة المستقبلية بين نتنياهو وأي من الحزبين. وبغض النظر عن الفائز بالرئاسة، لن يكون هناك المزيد من الهدايا المجانية، بل سيكون الكثير من الشكوك، والقليل من الاحترام.

لكن غرور نتنياهو، حجب عنه مغزى اللحظة، وعبرتها. ورغم أن خطابه في الكونغرس كان حديثاً من القلب للقلب، بين عجوز مسياني صهيوني، وعجائز مسيانيين أميركيين، بدا واضحاً عمق الورطة التي أوقع بلاده فيها. فبعد أكثر من تسعة أشهر من القتال، والعنجهية الدموية، لم يتمكن هذا الجيش الإمبراطوري من حسم معركة في مساحة 34كم يحاصرها براً وبحراً وجواً.

لذلك لم يستقبل أيٌّ كان في واشنطن نتنياهو استقبال المنتصر، فالقتل ليس نصراً بأي مقياس، وركام جماجم أهل دمشق لم يمحض تيمورلانك نصراً، بل اندثرت امبراطوريته "العظيمة" بعد عقود.

ولا استقبلت واشنطن نتنياهو كضحية، فنجاحه في قتل ما يقارب الأربعين ألف فلسطيني، يجعله الفائز بامتياز في مباراة قتل المدنيين بذريعة الرسائل الإلهية، ليقف جنبا إلى جنب مع "داعش" و"القاعدة" و"الحشد الشعبي" وبشار الأسد.

وحين تحدث نتنياهو عن التحضر والبربرية، ورفع صك الملكية العقارية المسيانية للأرض الموعودة، لم يصفق له الا المسيانيون، ولم تنفعه محاولة ايقاظ الإرث الاستعماري الهمجي الغربي حيث بارك رجال الدين قتل الـ"متوحشين" الذين لا يرتقون في تحضرهم، لتحضر البريطانيين والبلجيك والفرنسيين... و"الإسرائيليين".

ذلك ان نتنياهو لم ير أن أميركا تتغير! وكما فعلت أوروبا فرانس فانون في السبعينات، تمضي أميركا قدماً في معركة التطهر من الإرث الاستعماري الدموي البغيض، وتتجلى هذه المعركة بوضوح في شتى مناحي الحياة، ثقافة وقيماً وعلائق بين الشباب. عملياً كانت الرسالة واضحة: ليس ثمة قنابل، ولا خطابات، تنقذ نتنياهو من فشله! والمزيد من الحفر في مستنقعه لن يفضي إلا لغرقه، وعندها سيغرق وحده.

بثقافتها البرغماتية غطت وبررت وارتكبت المؤسسة الأميركية، تراثاً كاملاً من الأفعال اللاأخلاقية واللاقانونية. لكن هذه الأفعال كانت لها فائدتها وثمنها الاستراتيجيين. وفي واشنطن اكتشف نتنياهو أن الدعم الأميركي لإسرائيل إبان الحرب الباردة ليس خالداً خلود الوعود المسيانية. فالمصلحة الأميركية هي الأساس.

بل، وفي لحظات معينة، شعر الأميركيون بالكثير من الخذلان، جراء محاولات نتنياهو اصطياد المكاسب بالتواطؤ مع بوتين في سوريا وأوكرانيا وتعميق التعاون التقني والاستخباري والعسكري، وجراء العديد من العقود الاستراتيجية بين إسرائيل والصين.

تشدَّد الرئيس ترامب ومن بعده بايدن في التطلب من الحلفاء بالتكامل مع الاستراتيجية الأميركية الكونية، والآن سيكون من الخبل أن يظن نتنياهو ان إسرائيل، ولأسباب عقائدية، ستلقى معاملة أفضل من ألمانيا واليابان وفرنسا.

تغيرت واشنطن عن يوم كان فيها سفيراً لـ"دولة عظمى"، ويوم اكتفى نيكسون بالتذمر من "دولة بثلاثة ملايين تتصرف امام أميركا كدولة عظمى".

لم يأت نتنياهو لا كضحية ولا كمنتصر، بل جاء يستجدي نصراً عزيزاً، وأميركا لا تعطي أحداً شيئاً لسواد عينيه. وهي لا تحب الفاشلين والخوافين، بل تكره الخبل العقائدي.

جاء نتنياهو يستجدي ثلاث قضايا وفشل فيها: • يستجدي سلاحاً أميركياً لقصف الأنفاق التي تعترف إسرائيل أنّ قسماً هاماً منها لا يزال مجهولاً. • يستجدي دعماً أميركياً لخطته لليوم التالي، بعدما أفشل عن عمد كل المشاريع العربية الأميركية والأوروبية البديلة، ليصبح مشروعه لوقف إطلاق النار مجرد وصفة لتأبيد الحرب، والمزيد من تدهور الموقف الأميركي في الإقليم. • يستجدي دعماً أميركياً لفتح جبهة الشمال، والتصعيد ضد إيران في مواجهة برنامجها النووي العسكري، ثم يستجدي غطاء استراتيجياً في حرب إقليمية.

حقيقة الأمر أن نتنياهو لم يحصل على أي منها، ولا حتى من ترامب. فيما نتنياهو "يقص العشب" في اليمن وسوريا ولبنان مراهناً أن يختبئ تحت اللحاف الأميركي، يجد نفسه محاطاً بالغابات تحيط به من كل الجهات. فلطالما راهن ان أميركا في جيبه في كل الأحوال. لكن أميركا تتحول. ولعل بايدن وترامب آخر الحلفاء الأنقياء لنتنياهو في واشنطن.

ذلك أن الردع الاستراتيجي يشبه العملة المتحركة في البورصة. يتحرك صعوداً وهبوطاً، يأتي ويذهب، ولا يحميه الهوس العقائدي الدموي. بل لا تحميه الا الحكمة والرؤية التاريخية. لكن نتنياهو لا يزال يحفر في مستنقعه، ولن ينزل أحد معه الى القعر.