عبدالله خلف

كانت سلاّمة القَسّ، عند رجل تقي وكانت ترعى له البُهم في بطاح مكة، وتخدم في البيت وإذا أوت إلى فراشها تُردد بعض الأغاني بصوت خافت... حتى إذا زارت جميلة المغنية مكة حاجّةً، في موكب عظيم ورافقها المئات من الجواري والقيان، وبرز من خرج معها في اتخاذ أنواع اللباس العجيب والظريف وتلقاها عمر بن أبي ربيعة، وسعيد بن مِسجح وابن سُريج وابن محرز، وجماعة من الهذليين وجماعة من المغنين.

دخلت جميلة، مكة وما في الحجاز مُغن حاذق ولا مغنية إلا وهو من جمعها.

نزلت جميلة في بيت ابن سهيل، القريب من الدار التي تسكن فيها سلّامة، وسمع سيدها وهي تُردد أغاني جميلة، وحاول أن ينهاها ولكن قلبها مال نحو الغناء والطرب... فقام سيدها إلى جاره ابن سهيل، وعرض عليه بيعها له فقبل بها. وشاهدت في بيت سيدها جميلة المغنية، التي دخلت مكة ومعها المئات من المشيعين ورواحل ملأت طرقات مكة حتى ضاقت بها.

وكان في مكة من أتقياء المسلمين وأشدهم ورعاً مثل عبدالرحمن بن عمار، وكان يدعوه قومه بالقسّ لصفاء نفسه وانصرافه عن الدنيا وانكبابه على الصلوات ولزومه المسجد وزهده في مباهج الحياة.

وكان عبدالرحمن بن عمار، يوماً ماراً بقصر ابن سهيل، في طريقه إلى المسجد حتى سمع شدواً جميلاً رقيقاً فانسكب في روحه وداخل قلبه، فاقترب حيث ينبعث الصوت الرقيق فجن جنونه، وتباطأ في مشيه كأنّ علّة أصابت قدميه ولاحظه ابن سهيل فدعاه إلى قصره... بعد أن رآه ساهماً مسبوهاً مُصغياً للغناء، فسر أن يسحر صوت سلاّمة أتقى أتقياء مكة. فداخله الحياء، فطلب إن يستمع إلى سلامة، من وراء حجاب حتى نفذ سحر الغناء إلى أغوار نفسه وأخذ يعصف بها عصفاً شديداً.

ثم لانت سرائره فأمر بإزالة الحجاب فأُزيل، ورآها عن بُعد فطلب دنوّها وأن تغنيه بين يديه، فاستجاب ابن سهيل، وحقق له ما رغب فجلست بين يديه تُغنيه بصوتها الساحر الجميل، فشاهدها بقربه وإلا هي أبهى من القمر المنير... ورأى فيها جمالاً منوراً وُحسنا مزهراً وبهجة عارمة فاستقرت في قلبه وتمكنت من فؤاده، فطلب منها غناء لعمر بن أبي ربيعة فغنته:

هيهاتَ من أمة الوهّاب منزلُنا

إذا حللنا بسيف البحر من عدن

وحلّ أهلك أجياداً فليس لنا

إلا التذكُّر أو حظٌّ من الحزن

لو أنها أبصرت بالجزع عبرته

من أن تَغرّد قمريٌّ على فننِ

ما أنسى لا أنسى يوم الخيف موقفها

وموقفي وكلانا ثمّ ذو شجن

وقولها للثريا وهي باكية

والدّمع منها على الخدين ذو سَنَن

بالله قولي له في غير معتبةٍ:

ماذا أردتَ بطول المُكث في اليمن

***

واستخن بالشيخ الطرب حتى أخذ يضرب جبهته بكلتا يديه، وأخذ يهلوس وغشيته إغماءة، فخاف عليه ابن سهيل حتى تأكد أن ذلك من مفعول الطرب الذي حُرِم منه.

هذه الحالة نعرفها ومن تُصيبه عندنا في الكويت نقول إنه (استنزل) أي نزل عليه الجن فأفقد صوابه من الطرب.

فهام بها وتعلّق قلبه بها حتى صار حديث أهل مكة تلوكه الألسنة، فرحمه ابن سهيل رفقاً به حين لاحظ ما كان يعصف به من هبوب رياح الحب. فباع بعض ما يملك لكي يشتري سلّامة، فأبت إلا أن يتزوجها، فاشتراها ثمّ أعتقها وساقَ إليها مهراً كثيراً فعُرفت بعد ذلك بسلّامة القَسّ.