د. محمد النغيمش
ما زال المسلسل الكرتوني الأميركي "عائلة سيمبسون" يحيّر الناس حول العالم. فكيف تمكّن من "التنبؤ" بحوادث دقيقة في مشاهده قبل حدوثها بسنوات عديدة. فهو الذي توقّع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يذيع صيته في ميادين السياسة في عام 2000، ولمّح إلى تفشي فيروس إيبولا في عام 1997 قبل وقوعه بـ20 عاماً، وجسّد لنا الساعة الذكية والمكالمات الهاتفية المصورة في حقبة التسعينات قبل أن تستوطن هواتفنا.
كيف لمسلسل كرتوني أن يتنبأ بفضيحة فساد رياضية لتقع لاحقاً في اتحاد "الفيفا" لكرة القدم، وأن يتوقع استحواذ "ديزني" على غريمتها "توِنتي فرست سينتشوري فوكس" في عام 1998، ليحدث بالفعل في عام 2017.
البعض يرى أن هذا المسلسل ألصق به كذباً أحداثاً لم يتنبأ بها. وبغض النظر عن دقّة ذلك، تبقى حقيقة ماثلة أمامنا، وهي أن استشراف المستقبل ليس تنجيماً. فكتّاب المحتوى المحترفون مثلاً يستلهمون قصصهم من الاتجاهات السياسية والاجتماعية السائدة، واستخدام تقنيات الإبداع، والخيال العلمي، وكل ما يكشف لنا خبايا المستقبل.
وهذا ما يدفع بمؤتمرات عديدة في العالم، منها دافوس وآسبن وغلوبال فيوتشرز والقمة العالمية للحكومات وغيرها، إلى محاولة استشراف المستقبل بناءً على معلومات متينة في قطاعات مختلفة. فالهاتف الخليوي، كان العاملون في ميادين الاتصالات في حقبة السبعينات يدركون أنه آتٍ لا محالة، بسبب التطور الطبيعي للتقنية، وكذلك الحال مع الصواريخ والغواصات والطائرات من دون طيار والذكاء الاصطناعي.
لذلك، فإن كل متخذ قرار لا يجد حوله من لديه من العلم والمعرفة ما يؤهّله لاستشراف المستقبل، فهو في الواقع أقل تأثيراً في عصرنا. من رئيس الدولة إلى رئيس أصغر شركة عامة أو خاصة، لا بدّ أن يحيط كل قائد رفيع نفسه ببطانة تمتلك عمقاً في الفهم والتحليل وقراءة المشهد الحالي ومعرفة مآلات الأمور. فليست مهمّة المستشار الإجابة عن الأسئلة فحسب، بل تقديم رؤية ثاقبة للمستقبل، لسبب بسيط وهو أن بعض قراراتنا مرتبط بالوضع الحالي، وبعضها مرتبط بالقريب العاجل.
والمستشار المتمكن ليس من "يعرف كل شيء" بل من يعرف من يلجأ إليه من المختصين في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والإدارة ليكون معيناً من المعرفة. حتى من يدير محافظ مالية نجد محفظته قد تموضعت في أسهم تشير كل التوقعات إلى مستقبلها الواعد، مثل الرقائق الإلكترونية (chips) التي تكاد تدخل في جلّ صناعاتنا.
واستشراف المستقبل هو نهج دولة ومؤسسات بل وحتى أفراد، لأن مصيرنا مرتبط بما سيجري في المقبل من الأيام. ويمكن استشراف ما سيحدث من خلال عمليات التنبؤ والتخطيط وتدبّر الاتجاهات السائدة بناءً على التحليل العلمي والمعرفي. ومن طرق استشراف المستقبل جمع البيانات والتنبؤ بمجريات الأحداث، ووضع السيناريوهات واستطلاعات الرأي والاستشارة والبحث العلمي والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة كالذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة (big data) التي لم يجد كثير منها من ينقّب فيها.
وتمكّن كثير من العلماء من استشراف المستقبل من خلال نماذج المحاكاة، لينجحوا في وضع سيناريوهات مستقبلية بناءً على المعلومات التاريخية والحالية والمتوقعة.
وكلما كان لدى متخذ القرار بيانات أكثر، وتخطيطاً أطول من حيث مداه، صار بمقدوره استشراف جزء من المستقبل الذي يزيد من تنافسيته وسرعة استجابته للأحداث.
التعليقات