يا للغُلامِ المُدلَّلْ من الجميلاتِ أجملْ

إذا مشَى يتهادَى مهفهفَ القدِّ أكحلْ

جفونُه ناعماتٌ والقلبُ كِسرةُ جَندلْ

هذه الأبيات هي مطلع الملهاة الشعرية التي كتبها غازي القصيبي عشية استلام بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء لأول مرة في يونيو (حزيران) 1997. وقتها كان نتنياهو في الـ48 من العمر، وكان معروفاً بأنَّه يمينيٌّ متشدد يرفض مبدأَ تقديمِ تنازلات مقابلَ الحصول على المكاسب. ولعلَّ وصفَ القصيبي له في مطلع القصيدةِ يتلاءمُ مع حال نتنياهو الذي قَدِمَ خلفاً لشيمعون بيريز السياسي السبعيني وأحدِ عرّابي اتفاق أوسلو مع «منظمة التحرير الفلسطينية».

قصيدة القصيبي مليئةٌ بالتَّهكم على منطق نتنياهو الذي «يريد سلماً وأرضاً»، وكذلك «نسف بيوت/ نزع سلاح من شرطة/ احتلالاً مجدداً...». كل هذا واتفاقية أوسلو لم تكمل عامَها الرابعَ بعد!

وقتَها نظرَ البعض للقصيبي على أنَّه شخصٌ متشائم ويبالغ في تصوير رئيس الحكومة الإسرائيلية. ولكنَّ الأيامَ أثبتت أنَّ القصيدةَ بالكاد وصفت المسؤولَ الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية. فما قامَ به نتنياهو حتى الآن يدلُّ على نظرتِه الاستعلائيةِ للعرب، وأنَّ معاقبةَ حركة «حماس» على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) تعطيه الحقَّ ليرتكب المجازر ضدَّ عموم الشعب الفلسطيني، وهذا بالضبط ما أشار إليه القصيبي في القصيدة نفسها عندما قال:

تريدُ نسفَ بيوتٍ؟! أهلاً وسهلاً تفضّلْ

خذِ الصغارَ ضحايا على مذابحِ هيكلْ

وإن أردتَ كباراً فكلُّ شيخٍ مبجَّلْ

غيرَ أنَّ الأخطرَ فيما جاء في نصّ القصيبي كانَ تصريحُه بالطموحات الصهيونية في دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. وبعيداً عن الجدل حول نظرية المؤامرة، فإنَّ الدولة العبرية تقوم على سلطةِ الأمر الواقع بعيداً عن الاعتراف بالحدود الدولية؛ بمعنى أنَّ ما تغنمه في الحرب هو لها، ولا تتنازل عنه لصاحبِه الأصلي إلَّا مقابلَ مكتسباتٍ واضحةِ المعالم. ففي سوريا، ضمّت مرتفعاتِ الجولان رسمياً لحدودِها بعد أربعةِ عقود على احتلالِها. أمَّا في مصر، فإنَّها قد قبلت بالتسوية وإرجاع سيناء - التي تبلغ مساحتُها أربعةَ أضعاف مساحة فلسطين التاريخية - مقابل ضمانات مشددة ترفع مجرد احتمالية استخدام سيناء في أعمال عسكرية ضد دولة إسرائيل.

بعد ثلاثةٍ عقود على قصيدة القصيبي، وبعدما توصّلتِ الحكومة التي يرأسها نتنياهو لاتفاقات تجارية ودبلوماسية مع بعض الدول العربية، فإنَّ الغلامَ المدلل لا يعبأ بعمومِ المنطقة، ويصرُّ على المضي قدماً في التنكيل بالمدنيين دونما مراعاة لفرص تاريخية تحفظ لكيانه اعتراف الجيران، فهو يتصرَّف تماماً كما وصفته القصيدة،.

ربما تكون المفارقة الوحيدة التي تزرع الشوك في حلق «بيبي»، أنَّه لم يتمكن من الحصول على اتفاقية دبلوماسية مع السعودية التي تتَّسم سياستها تجاه القضية الفلسطينية بالثبات على مبدأ الحق العربي في فلسطين. هذا المبدأ منذ عهد الملك المؤسس وحتى عهد حكومة قائد «رؤية 2030». فالقضية الفلسطينية موضوع محسوم لدى المملكة العربية السعودية بوصفها قوة إقليمية عربية إسلامية تتخذ سياسةً متوازنة تحسب فيها تحركاتها استراتيجياً. وهذا يعني أن السعودية ستحافظ على موقفها حتى تُؤمن ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين، ولن تمنح نتنياهو مكسباً تاريخياً بالمجان. فالقيادة السعودية تعي تماماً حجمها الكبير ووزنها الثقيل، وليست بوارد الدخول في اتفاق يمسّ بمكانتها الكبيرة كضامنٍ سياسي للحق العربي في فلسطين.

لقد نظمَ الدبلوماسي السعودي المخضرم الراحل قصيدتَه المذكورة وهو سفيرٌ لبلاده في لندن، وهو يمثّل مؤسسة سيادية عريقة كانت وما زالت وستظل تنظر بعين الاستراتيجي المحنك، الذي يعلم كيف يستعمل أوراقه في خدمة أجندته طويلة المدى والتي تخدم مصالحه الوطنية ومكانته الدولية، التي هي بعيدة عن أحلام نتنياهو وهو في منتصف عقده الثامن، تماماً كما كانت بعيدة عنه في أيام ولايته الأولى.