غسان زقطان

يقول الحاج "أبو إسماعيل"، صاحب عربة خضار متجولة وصلت إلى "رام الله التحتا"، من دون أن يرفع رأسه بينما يقشر أكواز الصبر (التين الشوكي) ويضعها في علب بلاستيكية: "إنها لعبة، كل ما يحدث في الدوحة هو لعبة هدفها إعطاء نتنياهو مزيداً من الوقت لتدمير غزة وضم الضفة وقتل المزيد من الشباب، وتوريط العرب في الدم الفلسطيني".

"هذا يتكرر دائماً هنا، منذ الهدنة الأولى في عام النكبة"، يكمل الحاج.

يقصد الرجل الهدنة الأولى التي وقعت بين الجيوش العربية في 11 حزيران (يونيو) 1948 وانتهت تماماً في 8 تموز (يوليو) من العام نفسه، إذ استغل بن غوريون تلك الأسابيع لإعادة تأهيل المنظمات الصهيونية العسكرية وتوحيدها وتسليحها، عبر صفقة الأسلحة التشيكية والدعم الغربي الذي شمل الطائرات والذخائر والمدفعية والمتطوعين، قبل مواصلة الهجوم ودفع الجيوش العربية المهلهلة جنوباً وشرقاً، بحيث تحولت تلك الهدنة إلى فرصة لتذخير الأسلحة وتبديل الحراسة.

كل شيء هنا يرتبط بـ"النكبة"، اللجوء والاحتلال، الحرب والهدنة، المفاوضات والاتفاقيات، المخيمات والقرى البعيدة داخل "الخط الأخضر"، يسميها الفلسطينيون "مناطق الـ48". "النكبة" هي خط الأساس الذي تجري مقارنة كل شيء به، جدول من التاريخ المتماسك يتدفق من المنبع الواضح ويذهب إلى مصبات غامضة ومشوشة، ولكنه يتمسك بالمنبع مثل حبل نجاة.

يتوقف الحاج عن تقشير أكواز الصبر وينظر إلى العلب البلاستيكية، هذا الـ"صبر" من "نعلين"، لا يبدو الحاج دقيقاً هنا فموسم "التين الشوكي" في "نعلين"، بلدة تقع إلى الغرب من رام الله وتشتهر بإنتاج "التين الشوكي"، لم ينضج بعد ويأتي متأخراً عادة في نهاية آب (أغسطس).

تتجاوز وجهة النظر المتشككة هذه بفطريتها وريبتها برامج السلطة والفصائل، ولا تتورع عن القفز على أفكار السلطة وخطابات أبو مازن، والتحليلات التي تتدفق من كل زاوية، يتدافع لتقديمها محللون وخبراء وعارفون ومطلعون... تفيض بهم شاشات الفضائيات ومواقع التواصل ووسائل الإعلام التي تأكل الوقت من دون ملل، وتكاد الريبة تشكل اختصاراً عفوياً لمزاج شعبي يشمل الشارع الفلسطيني الذي يواجه على الأرض التعبيرات الدموية للاحتلال الإسرائيلي، في ترجمة فورية لأفكار الصهيونية في مراحلها العليا.

ثمة شكوك عميقة تأتي من الماضي ومن الواقع، خبرة مكتسبة في فهم الاحتلال والمواجهة اليومية للاستيطان والحكم العسكري و"الإدارة المدنية" والاغتيالات والاعتقال والحواجز ودوريات حرس الحدود، والفروق بين مناطق ألف و"ب" و"سي"...، بهذه الحمولة التي تكاد تكون شخصية وعامة في الوقت نفسه، يفكر الفلسطينيون، أو معظمهم، عندما توجه لهم سؤالاً عن "مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة"، وهي حمولة نامية يضعونها أمام كل سؤال حول الصراع مع المشروع الصهيوني.

منذ وقت طويل لم تعد السلطة شريكاً في هذه المواجهة، لقد تم دفعها بعيداً عن مناطق الاحتكاك، ليس على وجه الدقة ولكن ربما مع انحسار الانتفاضة الثانية ورحيل ياسر عرفات، ولكن شروط انعزالها كانت قد تهيأت قبل هذا التاريخ، عاد الناس إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو لمواجهة الاحتلال بأدواتهم البسيطة وابتكاراتهم الفردية.

الحاج الذي لا ينادي على حمولته ويكتفي بالمرور المتمهل ووقفات في مواعيد دقيقة، قال عندما سألته لماذا لا ينادي على بضاعته كما يفعل الباعة الجوالون: "عندما كنت شاباً كان صوتي قوياً وكنت لا أتوقف عن النداء". بعد الظهر، على شاشة التلفزيون في المقهى غير بعيد عن زاوية الحاج وعربته، سيلقي الرئيس محمود عباس خطاباً في الجمعية العامة للبرلمان التركي بحضور الرئيس أردوغان، خارج السرد التقليدي لخطابات "أبو مازن" وأسلوبه التوضيحي في شرح المفسرات، سيطلب المساعدة من مجلس الأمن على تأمين توجهه رفقة "القيادة الفلسطينية" إلى غزة.

يصعب تصور آلية تأمين الزيارة المتأخرة ما يقارب الـ17 عاماً، واجهت خلالها غزة ما يشبه حرباً أهلية وحكماً متفرداً من "حماس" وحصاراً إسرائيلياً خانقاً شمل كل شيء؛ الحركة والغذاء والدواء ومصادر الطاقة والوقود، إضافة إلى حروب عدة مدمرة. الخيال العلمي وحده يمكن أن يقدم مشهداً لقيادة السلطة في شوارع غزة، ولكن يمكن عقد مؤتمر صحافي على بوابة معبر رفح المدمرة، أو الاعتصام على سبيل المثال.

العالم الذي عجز عن تأمين شاحنات المساعدات والأدوية ولقاحات شلل الأطفال وسلامة الصحافيين وعمال الإغاثة، وابتكر الميناء الأميركي العائم قبل إعلان فشله وتفكيكه، أو إسقاطها المساعدات بالمظلات على رؤوس الناس أو في عرض البحر، سيواجه المشكلة نفسها في تأمين دخول الرئيس والقيادة إلى حقل الإبادة في مدن ومخيمات وبلدات قطاع غزة، وسيكون من الصعب، بالتأكيد، استخدام المظلات في هذه الحالة.