عبدالله السويجي
نفهم تماماً أن الوسيلة الإعلامية تتبع الحدث، حتى وإن ادّعى بعضها أنه يصنع الحدث، ورغم أن هذه الفكرة ليست موضوعنا، إلا أنني أستغرب حين أقرأ هذا الكلام، لأن الوسيلة، تدري أو لا تدري، تضع نفسها في دائرة لا ترغب بها، بل وتستميت في الدفاع عن نفسها، مدّعية الموضوعية، وسأكتب جملة تتكرر في بداية الأفلام مفادها: «إن أي تطابق في الوصف والأسماء غير مقصود البتة..»، ونحن نتكلم في مطلق الإعلام، وسياسته واستراتيجياته، ونعود لنكرّر أن الوسيلة الإعلامية، المقروءة والمسموعة والمرئية تتبع الحدث. وهذه الحقيقة يجب ألا تنسيها، أي الوسيلة، مجال عملها، وجمهورها المتنوّع.
ففي هذا العصر، حيث تعدد الفضائيات التلفزيونية والإذاعات والصحف، الورقية والافتراضية، يسهل على الجمهور، وبكبسة زر، الانتقال، وبسهولة، إلى وسيلة إعلامية أخرى، فزمن «التلفزيون الحكومي» الذي كان ينفرد ويتفرّد بالخبر والوسيلة، ويمنع ما عداه، قد انتهى، ويستحيل، بناء على ذلك، إلزام أحد بالمتابعة، فالخيارات كثيرة جداً، وبكل اللغات. وأي «عناد» من قبل الوسيلة الإعلامية، سيجعلها تخسر شريحة من الجمهور، لهذا عليها أن تتسم بالذكاء، والتنوّع، والموضوعية قدر الإمكان، وأن تضع في الحسبان ذكاء المشاهد، والوسائل الإعلامية التي عاندت وتحدّت الجمهور كان مصيرها الإقفال. ونحن هنا لا نقصد تطبيق مقولة المخرجين (الجمهور عايز كده)، لأن الوسيلة الإعلامية باتت أكثر من مجرد وسيلة للتسلية، ومطالبة، من حيث لا تدري، بمحتوى يستند إلى المصداقية والتنوع والحرفية.
بناء على ذلك يمكن القول إن الانجرار وراء الحدث والتركيز عليه بشكل كامل، بحيث تنسى الوسيلة الإعلامية تنوّع جمهورها ومزاجه وأعصابه وتوجّهاته، سيجعلها تقع في إشكالية المتلقّي. وحين نقول الحدث نعني الوقوف عنده واجترار أخباره وصوره وتصريحات أطرافه الصانعين له.
على سبيل المثال، أسرت معظم الوسائل الإعلامية، خاصة الفضائيات نفسها وساعات بثها بموضوع ما يجري في غزة، أي الحرب الدائرة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي، وما يدور في فلك هذه الحرب الدائرة منذ عشرة شهور، أي حركة المراسلين والضيوف والندوات السياسية والعسكرية، وصار الشغل الشاغل للوسائل ما يجري في قطاع غزة، من نزوح وضحايا وأزمات صحية وعلاجية وغذائية ولوجستية، وغيرها.
وبما أن الإنسان العربي يفتقر إلى سياسة تنظيم المشاهدة، ويتصرف كأي وسيلة إعلامية، أي يعطي جل وقته لمتابعة الأحداث، كونها سيطرت على مشاعره الإنسانية والسياسية والدينية وشيئاً، فشيئاً، وأمام استمرار المشهد المحزن بدأ المشاهد ينسحب تدريجياً، لأنه كاد أن يُصاب بالهزيمة والكآبة وقلة الإنتاج، بل أثّر هذا النمط من المتابعة غير المدروسة على حياته الأسرية والمجتمعية والعملية، بينما العديد من الوسائل الإعلامية لم تنتبه إلى هذا الأمر، واستمرت في ضخ الأخبار والصور والفيديوهات على مدار الساعة، وكانت قبل عشرة شهور أسيرة للمعارك في السودان، حيث لم تعد وسائل إعلامية كثيرة تتطرّق لما يحصل هناك، وهذا يفسّر هيمنة الحدث على الوسيلة الإعلامية، وأكاد أشعر «تلذّذاً» من نوع خاص، لدى مديري تلك القنوات وبعض العاملين فيها، ويمكن استعاضة المفردة بأخرى، مثل السادية، وإن حملت الأخيرة بعض الألم أو التجنّي.
الآن، تنشغل وسائل الإعلام العربي، من دون استثناء، بالانتخابات الأمريكية التي كان بطلاها دونالد ترامب وجون بايدن، وبعد استقالة الأخير حلّت محلّه كامالا هاريس التي ستكون، في حال فوزها، أول امرأة رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، ولسنا هنا بصدد الانخراط في الحديث عن الانتخابات الأمريكية، ومن هو صاحب الحظوظ الأكبر لحكم البيت الأبيض، لكننا بصدد القول إن الانتخابات في وسائل إعلامية عربية كثيرة، أخذت مكان أخبار المعارك والوضع الإنساني في قطاع غزة، ومعها الضفة الغربية، لتصبح الانتخابات الشغل الشاغل للإعلام العربي، بل إن البعض ينحاز ويشجع ويفضّل رئيساً على أخر، وكأن الرئيس الفائز يمتلك عصا سحرية سيعالج بها مشاكل العالم المتأزم، خاصة مشاكل وأزمات الشرق الأوسط.
ولا بأس من التداعي قليلاً هنا والقول إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة مؤسسات، ولديها سياسة خارجية متفق عليها لسنوات طويلة قادمة، وقد تكون السياسة الداخلية التي يمكن أن تتغير ولو بشكل طفيف. والسياسة الخارجة الأمريكية معروفة مسبقاً تجاه الشرق الأوسط، والمرشحون يتسابقون في الكشف عن دعمهم لإسرائيل وأمنها وتفوقها على جيرانها العرب، بل ومنطقة الشرق الأوسط، وهذه السياسة لن تتغير بتغير الرؤساء، ورغم ذلك، سيبقى الإعلام العربي منشغلاً بالانتخابات حتى حسمها، وقد ينشغل بعدها بالرئيس الفائز، بينما ينظر الأمريكيون إلى الانتخابات كمهرجان.
وفي الإطار ذاته، انشغل الإعلام العربي منذ اغتيال إسماعيل هنية في طهران بأخبار الرد الإيراني ورد إسرائيل المحتمل، وإمكانية نشوب حرب إقليمية، وغير ذلك، وهؤلاء، أي الوسائل الإعلامية، لا تعلم طبيعة العلاقة التي تحكم إيران والولايات المتحدة، والتي تستبعد قيام حرب في المنطقة.
الإعلام العربي في حاجة إلى استراتيجية ثابتة لا تجعله رهينة لحدث ما مهما كبر أو صغر، والإبقاء على علاقة ذكية مع المتابع أو المشاهد، وهو متعدّد الاتجاهات والمشارب، حتى لا يتسبّب بخلق أزمات نفسية واجتماعية، تنعكس على الإنتاجية والاستقرار الفردي والمجتمعي.
التعليقات