يطرح التوغل الأوكراني في كورسك الروسية، تساؤلات عن أهدافه ومخاطره ومدى صموده، في ظل وضع ضبابي يلف الأزمة برمّتها، فهذا التوغل أقرب ما يكون إلى مقامرة سياسية أبعد من كونه تكتيكاً عسكرياً للضغط على موسكو للجلوس إلى طاولة المفاوضات، حيث إن ذلك لم يتحقق إلى الآن، ولم يؤثر على التقدم الروسي المستمر في شرقي أوكرانيا.السيطرة على 1000 أو 2000 كيلومتر مربع في دولة تمتلك نحو ثُمن اليابسة في الكرة الأرضية بمساحة أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع، لا تحمل إلا دلالة رمزية مفادها قدرة أوكرانيا على إحراج روسيا العظمى، والإيهام بإمكانية إجراء تبادل أراضٍ بين كورسك ودونيتسك مثلاً في أي مفاوضات سلام قد تشهدها الأزمة لاحقاً. ومنذ اليوم الأول للعملية الأوكرانية في السادس من الشهر الجاري، قالت كييف، إنها لا ترغب في البقاء طويلاً في الأراضي الروسية التي احتلتها، وإنما تأمل أن يُقنع هذا التوغل موسكو بالنظر في التفاوض لإنهاء الحرب، لكن الرد بدا مخيباً للآمال، فلم ترد روسيا إلا بالوعيد، وتعهّدت بإخراج القوات الغازية من أراضيها، في الوقت الذي تحقق فيه قواتها مكاسب ميدانية إضافية في شرق أوكرانيا باستيلاء على مزيد من البلدات والقرى، واقتربت من نقاط استراتيجية تتهيأ للسيطرة عليها بشكل كامل، وتهدد مناطق أخرى، ربما كانت إلى وقت قريب خارج الحسابات الروسية.قبل نحو عامين طال الحديث عن «الهجوم الأوكراني المضاد»، الذي فشل في استعادة أي شيء جوهري، بل استنزف كييف وحلفاءها الغربيين، أما بعد «غزوة كورسك» فسيكون الحديث عن الهجوم الروسي المضاد الذي يجري التحضير له، ولا أحد يمكن أن يتوقع حدوده ومداه، وحتى إذا قررت أوكرانيا الانسحاب من المنطقة، التي سيطرت عليها، فذلك سيكون كارثياً، رغم أن مسرح العملية أرض غابات كثيفة توفر الغطاء نسبياً، لكن القوات المتراجعة ستواجه كثافة نيران ستحوّل التقهقر إلى كارثة استراتيجية بالمعنيين السياسي والعسكري.الحلفاء الغربيون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، سعوا إلى النأي بأنفسهم عن الهجوم الأوكراني، دون أن يدعموه علناً، ربما في انتظار ما ستؤول إليه هذه العملية، رغم أن كل المعطيات تؤكد استحالة احتفاظ أوكرانيا بالمنطقة التي سيطرت عليها، وتخوف الغرب من أن انتقاماً روسياً مؤلماً، قد يكون بشن هجوم واسع على أوكرانيا أو استخدام أسلحة غير تقليدية حتى تعيد موسكو رسم خطوطها الحمراء أمام القوى الغربية التي يمكن أن ترى في هذا الاختراق الأوكراني هشاشة روسية تغري بمنح كييف أسلحة أكثر قوة وفاعلية.ما يسترعي الانتباه في مجريات الأيام الأخيرة، أنّ هناك صمتاً مثيراً للقلق يلتزم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم يعلق بإفاضة على التوغل الأوكراني، لكنه سيعرض قريباً تقييماً للوضع، ونقل عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف التأكيد بأنه في أعقاب التوغل الأوكراني في كورسك، أصبحت المفاوضات، التي تطمح إليها أوكرانيا، ضرباً من المستحيل. وهذا يعني أن الرد قد لا يتوقف عند المستوى السياسي باستحالة المفاوضات، وإنما قد يحوّل العملية العسكرية الخاصة إلى حرب شاملة لن تتوقف عند حدود أوكرانيا.
- آخر تحديث :
التعليقات