لعلَّنا لا نبالغ إن قلنَا إنَّ تاريخَ البشرية المسجل يثبت أنَّ الصراعَ على السلطة هو أبرز الثيمات التي تتجلَّى في التنظير الفلسفي والممارسة العملية. فالرسومُ الجدارية، والتماثيل، والملاحمُ الشعرية كلُّها توثّق الانتصاراتِ في الحروب وهيبة الزعماءِ السياسيين. أمَّا على المستوى الفكري، فقد تمَّت مناقشة شرعيةِ السلطة في أقدم النصوصِ الفلسفية التي وصلتنا.

في الكتاب الأول من جمهورية أفلاطون (كتاب العدالة)، ينقل أفلاطون محاورات أستاذِه سقراط مع السفسطائيين، والتي دارت حول مفاهيم العدالة والحكم، وممّا دار فيها «أن بعض المدائن يحكمها الخاصة، وبعضها الديمقراطيون، وغيرها الأرستقراطيون». هذه العبارة توضح أنَّ أنماط الحكم تختلف باختلاف المدن ومجتمعاتها. لاحقاً قام ماكس فيبر بتقعيد أنماط السلطة بشكل يتماشى مع محاورات «كتاب العدالة».

ما يهمنا هنا هو تسويق نموذج الديمقراطية بوصفه النموذجَ الأرقى والأمثل للحكم، مقابل تخلّف غيره من النماذج. يعتمد هذا التسويق على فكرة كون جميعِ أفراد الشعب مؤهلين للمشاركة في العملية السياسية من خلال الحق في الترشح للمناصب والحق في التصويت للمرشح الذي يرتضونه. غير أنَّ الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين أنَّ هذا الطرح لا يتعدَّى المستوى النظري. فعلى صعيد الترشح، يجب أن يكونَ للمرشح أرضية صلبة في المشهد السياسي، من خلال رأس المال الاجتماعي الذي ورثته أسرته أو بناه من خلال علاقاته الشخصية مع الأحزاب السياسية الفاعلة، وهذه الأحزاب تكون قليلة بسبب تحالف أصحاب القوى في تكتلات تحفظ مصالحهم؛ ما يعني بالضرورة تهميش الأحزاب الصغيرة. أمَّا على صعيد التصويت، فالأفراد يتعاملون مع خيارات محدودة اختارتها لهم الأحزاب الفاعلة، وأي محاولة للخروج على تلك الخيارات ستعني بالضرورة ضياع الصوت.

لنأخذ على سبيل المثال كلاً من بريطانيا وأميركا وهما نموذجان للقوى العظمى التي تمارس الديمقراطية، فأفراد الشعبين البريطاني والأميركي الذين يعتقدون أنَّهم يمارسون الديمقراطية عن طريق انتخاب ممثليهم البرلمانيين ورؤساء حكوماتهم، هم في الحقيقة يمارسون اختياراً بين متنافسين اثنين تم اختيارهما من قِبَلِ نخبةِ الحزبين المهيمنين على المشهد السياسي (المحافظون والعمال في بريطانيا، الجمهوري والديمقراطي في أميركا). وعلى الرغم من كل محاولات التغيير في سيطرة الأحزاب على خيارات الجماهير، فإنَّ الجماهير تظلُّ وفيةً لحزبها بسببِ استراتيجية التخويفِ التي ينتهجها كلٌّ من الحزبين ضد الآخر، عن طريق طرح ثوابتِ المحافظة والليبرالية. إضافة للقدرة المالية للحزبين المتنافسين في تمويل القنوات الإعلامية عن طريق إعلانات الداعمين، وهذا جزءٌ من ثقافةٍ رأسماليةٍ راسخة تقوم على حصر المنافسة بين عملاقين يتناوبان على الصدارة.

ونحن اليومَ على مشارفِ الانتخابات الرئاسية الأميركية الأكثر تعقيداً، نجد الحربَ الإعلامية التي تندرج ضمن السياق الذي تبنته معظم وسائل الإعلام الأميركية منذ انتخابات 2016، والتي تتلخَّص في ضرورة التصويت لمرشح الحزب الديمقراطي لمنع وصول دونالد ترمب إلى منصب الرئاسة. نستطيع القول إنَّ النقطةَ الأهم في برنامج هيلاري كلينتون 2016، وجو بايدن 2020، وكامالا هاريس 2024 هي «فلنهزم ترمب».

في اجتماع الحزب الديمقراطي، الأسبوع الماضي، تم إلقاء كثير من الكلمات الرنانة من قِبل رموز الحزب، وعلى رأسهم الرؤساء السابقون بيل كلينتون وباراك أوباما وزوجتاهما هيلاري وميشيل، إضافة لرئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي؛ كلهم ركزوا على الهجوم الشخصي على ترمب، بدلاً من انتقاد برنامجه الرئاسي. تكمن المفارقة في كونهم ينتقدون ترمب لتهجمه على شخوص مناوئيه ومنهم كامالا هاريس، التي خاطبت ترمب في كلمتها التي ألقتها في الاجتماع: «إذا كان لديك ما تقوله، فقله عندما تواجهني». ترمب لا ينكر، بل يجاهر بأنَّه يهاجم الشخوص في خطاباته، لكنَّه لا ينتقد هذا الأسلوب عندما ينتهجه غيره. بالمقابل، فإنَّ رموز الحزب الديمقراطي الذين تتلخَّص بضاعتهم في التخويف من ترمب، ينتقدونه لأنَّه يتهجم على شخصياتهم.

هذه المفارقة تكشف عن النفاق الذي تمارسه تلك النخب، والذي كشف عنه موقف الحزب الديمقراطي من روبرت كيندي شقيق الرئيس الأسبق، والذي عندما أعلن تأييده لترمب وكشف عن السياسيةِ الداخلية للحزب والتي تعتمد على الإقصائية، انتفضت الشبكات الإعلامية المنحازة للحزب الديمقراطي لتغتال شخصية الرجل، الذي يعد سليلَ أسرةٍ ضاربةِ الجذور في الحزب. فجأة أصبح روبرت كيندي - الذي يتبنَّى برنامجاً لحماية الغذاء من التدخل الكيميائي - مروجاً سابقاً للمخدرات.

إنَّ مسمى الحزب الديمقراطي وحاله في التعامل مع قضايا الشأن العام يجعلاننا نسترجع مفردة «الهيبوقراطية»، وهي اللفظ الإنجليزي لمفردة النفاق، فنقول «Hypocrite Democrat» أي الديمقراطي المنافق.