غسان زقطان

في أيلول (سبتمبر) 2017، نشر الناشط اليهودي المتطرف بتسلئيل سموتريتش ما أطلق عليه "خطة الحسم"، التي تقدم صيغة معاصرة لـ"الحل التوراتي" للصراع على فلسطين التاريخية. سموتريتش ينحدر من عائلة دينية متطرفة ولد في إحدى مستوطنات جنوب الجولان السورية المحتل، وعاش ودرس في مستوطنة "بيت إيل" شمال رام الله، ويعيش الآن مع زوجته وأطفاله السبعة في مستوطنة "كدوميم" شمال نابلس بعدما استولى على أرض فلسطينية خاصة، ذاكرته ونشأته ممتلئتان بأفكار الاستيطان وقتل "العرب"، والخطة هي محصلة هذه النشأة وترجمة مخلصة لها.

تنطلق الخطة من مرجعية وحيدة هي "التوراة" والوعد الإلهي الذي أعطي لليهود بامتلاك فلسطين وجوارها، وما يتضمنه الوعد من ملاحق مثل عودة المسيح وسيطرة اليهود على العالم، عملياً قدم تحديثاً لأفكار العهد القديم من دون الخروج عن النص السائد لدى معظم النخب السياسية الحاكمة في إسرائيل.

تقوم الخطة على "الحسم الاستيطاني" عبر إغراق الضفة الغربية بمليوني مستوطن، يشكلون حاجزاً قومياً مانعاً أمام أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني في الضفة الغربية، أياً كانت مواصفاته، في مستوى ما يبدو الأمر تنفيذاً ميدانياً لفكرة أحد أهم الآباء الروحيين للحركة الصهيونية، زئيف جابوتنسكي، المسماة "الجدار الحديدي"، والقائمة على ضرورة استخدام القوة في مواجهة "غير اليهود" لبناء "جدار حديدي" يضمن حماية "الوطن اليهودي" وضمان وجوده.

الحقيقة، وهذا استطراد يصعب تفاديه، يبدو الحديد مكوناً مهماً في البلاغة الأمنية الإسرائيلية، عملية "السكاكين الحديدية" وهو الاسم الذي أطلق على حرب الإبادة المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي في غزة، أو "القبة الحديدية" اسم منظومة الدفاع الجوي التي من المفترض، رغم إخفاقاتها، أن توفر مظلة حماية "للدولة"، والتي لا تذهب بعيداً عن فكرة "الجدار الحديدي" لجابوتنسكي الذي، بدوره، يعتبر المرجعية الأساس لفكر نتنياهو نفسه وعقيدته وملهمه منذ طفولته، إذ كان والده المؤرخ الصهيوني صهيون بن نتنياهو أحد أخلص أتباعه بحيث تحول "المنظّر" وأفكاره المتطرفة القائمة على إخضاع العرب مكوناً رئيسياً من ثقافة العائلة.

"خطة الحسم" بعناصرها الثلاثة؛ تكثيف الاستيطان، تهجير الفلسطينيين أو إخضاعهم والحسم العسكري، ستتحول إلى برنامج لليمين الصهيوني، ومع وصول سموتريتش وبن غفير إلى السيطرة على المفاصل الرئيسية لـ"الدولة" ستتجاوز كونها نظرية حزبية إلى برنامج حكومي.

سموتريتش يتولى صلاحيات واسعة في الضفة الغربية وحقيبة المالية ووزير ثان في وزارة الحرب إلى جانب غالانت وعضو كنيست ورئيس حزب في الائتلاف الحاكم، ما يبدو استغراقاً في سرد سيرته هو محاولة توضيح ما يحدث على الأرض في فلسطين، وهو ما كان يتهيأ للحدوث دائماً مثل زمن مؤجل من القتل.

من هنا، أيضاً، يمكن فهم الاستعراض الدموي في شمال الضفة الغربية، وحملة التهويل التي سبقت عملية "المخيمات الصيفية" والمبالغات التي التقطتها بعض وسائل الإعلام العربية وسوقتها بسذاجة شعبوية، حول حجم السلاح في الضفة وخلايا المقاومة وقواها وإمكاناتها، بما فيها زج إيران كمورد في ثنايا الحملة، وتصويرها كقوة عسكرية مسلحة لتبرير الجرائم التي ينفذها الاحتلال أو تلك التي يخطط لتنفيذها، ولصناعة صورة نصر مزيفة ترمم الردع المفقود في غزة وفي الشمال.

وذلك في الوقت نفسه استكمال تنفيذي لـ"خطة الحسم" ونقلها نحو مستوى جديد تصعب السيطرة عليه من قبل أي محاولة لحل الصراع.

لقد أنجزت خلال الفترة الماضية الأرضية القانونية لضم مناطق "سي" (حوالي 60% من مساحة الضفة)، ومصادرة مساحات واسعة من الأراضي ومضاعفة البناء الاستيطاني، بما في ذلك تشريع "البؤر غير القانونية"، وتم ضم المنطقة "ب" تحت مظلة القانون الإسرائيلي وسحب صلاحيات السلطة المدنية المحدودة التي وفرها اتفاق أوسلو، وتمت محاصرة السلطة في مناطق "ألف" مع دور مجمد وتجفيف للموارد المالية، بموازاة ذلك أنجزت عملية تسليح شاملة ببنادق طويلة شملت عشرات آلاف المستوطنين.

لم تنجح فكرة إغراق الضفة بمليوني مستوطن حتى الآن، وهي فكرة كانت قائمة دائماً، ولكن فكرة توفير الأرض وتفريغها من الفلسطينيين لم تتوقف وتواصلت بوتائر مختلفة منذ خطة "ألون" في نهاية ستينات القرن الماضي التي ركزت على استيطان غور الأردن، مروراً بحكومات العمل "(إسحق رابين 1974) التي وسعت مناطق الاستيطان وحركتها من الغور نحو الجبال ومفارق الطرق، ثم حكومة الليكود 1977 وخطط أرئيل شارون، وصولاً إلى الثلاثي سموتريتش، بن غفير ونتنياهو.

إن التعامل مع عمليات الإنهاك التي سبقت اجتياح الشمال بصفتها استمراراً لحملة "جز العشب" المتواصلة منذ سنوات، تبدو قراءة انتقائية معزولة عن الإطار الأوسع الذي تتجمع أذرعه وتطبق على الضفة الغربية.

وهي قراءة للواقع بـ"المفرق"، إذ سيكون من السذاجة المفرطة عدم ربط إحراق بلدات "حوارة" و"ترمسعيا" وأخيراً "جيت"، بعمليات تجريف البنى التحتية في مخيمات اللاجئين "نور شمس" و"بلاطة" و"جنين"، وحملة الاغتيالات للشبان بالمسيرات، أو فرض قوانين الاحتلال على مناطق "ب"، وبناء "حرس قومي" مسلح من آلاف المستوطنين وإفلاتهم في شوارع بلدات الضفة وقراها وطرقها، وربط كل هذا بجرب الإبادة في غزة.

مثل هذه القراءة، في أفضل أعذارها، ومع احتساب حسن النية وقلة الحيلة، وما تقتضيه من سياسة الانتظار وإطلاق الاستغاثات وإعادة السعي بأدوات انتهت صلاحيتها، كما هي حال السلطة الفلسطينية وتقسيمات الفصائل المقسمة في المشهد الفلسطيني، هي محاولة يائسة لمواصلة الاسترخاء في الكابوس.