منذ وقت قريب، أقدم أحد كبار المسؤولين اللبنانيين على مصارحة الجماهير الحاشدة في مهرجان خطابي، بما مفاده: «إذا خسرت غزة الحرب فالمنطقة ذاهبة إلى التقسيم، ما يلائم رغبة الكيان الصهيوني في إحاطة نفسه بكيانات صغيرة يكون هو بينها الأقوى». ويعني بذلك أنه إذا ربحت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» حرب غزة، فدول المنطقة ستبقى موحدة كما هي، وإذا تمت خسارة هذه الحرب فتقسيم دول المنطقة واقع حتماً. لكنه لم يوضح مفهومه للانتصار أو الخسارة، وما حدودهما؟ كما لم يوضح كيف تبدو له مسارات التوحيد أو التقسيم في المرحلة المقبلة...
ومثل هذه النظرة لإرضاء الجماهير، هي من التبسيط، بحيث لا تُحيط بالواقع السوسيولوجي والسياسي والتاريخي لدول المنطقة، كما أنها تولي الكيان الصهيوني ضمناً القدرة على التحكم بحركة التاريخ، وهذا الكيان وسواه أعجز بكثير من التحكّم بهذه الحركة.
وحقيقة الأمر، أن التجاذب بين التوحيد والتقسيم قائم في المنطقة منذ مائة عام، منذ انهيار السلطنة العثمانية سنة 1918، نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية - الهنغارية التي انهارت هي أيضاً. ومع بسط المنتصرين، البريطاني والفرنسي، انتدابهما على المشرق، باتت كل الاحتمالات ممكنة. لم يفِ المنتصرون الإنجليز للأمير فيصل بن الحسين بوعدهم بتنصيبه على «مملكة سوريا». بدلاً من ذلك، عمدت سلطة الانتداب الفرنسي إلى تقسيم «بلاد الشام» إلى أربع دول: دولة دمشق (فيما بقي من ولاية دمشق العثمانية)، دولة حلب (فيما بقي من ولاية حلب العثمانية)، دولة جبل الدروز، ودولة العلويين. وكانت الحيرة في توسيع «متصرفية جبل لبنان» نحو الشمال أو الجنوب. فاستقر الرأي على الجنوب، وكان «لبنان الكبير» الذي ضُمّت إلى جبله الأقضية الأربعة. ثم عمدت باريس في مرحلة لاحقة إلى دمج دول «بلاد الشام» في كيان واحد، تطبيقاً للنهج المركزي الصارم المنسوب «لليعقوبيين» في تراث الثورة الفرنسية. في جانب آخر، يغلب الاعتقاد أنه لولا تولّت فرنسا الانتداب على فلسطين، بدلاً من بريطانيا، لما قامت دولة إسرائيل. فروّاد الحركة الصهيونية، الذين احتضنتهم لندن، لم يلقوا تاريخياً أي تجاوب في باريس وموسكو والآستانة؛ حيث صدت مساعيهم. والرواد الصهيونيون الأوائل، مثل هرتزل، لم يكن لديهم الإصرار المطلق على إقامة «الدولة اليهودية» في فلسطين، إذ كانت واردة لديهم أمكنة أخرى في العالم، خصوصاً أفريقيا.
ثم على مرّ الزمن، اهتزّ العديد من دول المنطقة بفعل توالي الظواهر التالية:
على مدى قرن كامل، منذ سقوط السلطنة العثمانية حتى اليوم، لم تستطع «الدول الوطنية» في المشرق العربي (كذلك في المغرب) تحويل الجماعات داخلها إلى أفراد مواطنين. فـ«الثورة الفردية» لم تلح في الأفق. بدلاً من ذلك، اشتدت في تلك الدول قوة الجماعات الطائفية، والمذهبية، والعشائرية، والعرقية، وغيرها، واشتد تمايزها وحذَّر بعضها من البعض الآخر. ويُشكّل هذا التصدّع بيئة ملائمة لاحتمالات التقسيم.
وبينما كان هذا الواقع المُفكك يتفاعل، كانت تغطيه على الدوام وتحجبه عن الأنظار حركة توحيد لفظية ينشرها الإعلام الرسمي، كالمقولات البعثية في القُطر السوري والقُطر العراقي عن الثورة والنهضة ومحاربة الاستعمار وتحرير فلسطين، وعن القومية والوطنية والعلمانية، في «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وما ماثل ذلك من مقولات ناصرية وسواها. والاتجاهات الماركسية التي لم تصل إلى الحكم، كانت تستعمل الغطاء اللفظي نفسه للتعمية على الواقع، مثلما حدث عشية حروب 1975 في لبنان، حين اعتبر الماركسيون وحلفاؤهم أن الصراع الطائفي انتهى من زمان، وحلّ محلّه الصراع الطبقي، بينما كان الصراع الطائفي في أوجّه.
إضافة إلى عجز الدول عن تحويل الجماعات إلى أفراد مواطنين، أساءت هذه الدول إدارة الجماعات؛ حيث برزت الديكتاتوريات العاتية، وسادت على الدوام جدلية القامع والمقموع، والساحق والمسحوق... في انتظار أن يدور الدولاب، وتتبدَّل الأدوار، فيُضحي القامع مقموعاً، والساحق مسحوقاً، وهكذا دواليك، في متاهة عبثية استنفدت طاقات الشعوب والدول.
ثم أخيراً، على مدى العقود الخمسة المنصرمة، ولجت الثورة الخمينية هذا الواقع المتصدع من بوابة تسليح وتنظيم الجماعات المذهبية الموالية لها في دول أساسية في المنطقة، فكبر الشرخ بين الجماعات المسلحة وغير المسلحة. وبات في موضوع الوحدة والتقسيم، يصحّ قول الشاعر:
«تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ»... هذا كله قبل أن نصل إلى ما يطمح إليه الكيان الصهيوني.
التعليقات