فاروق يوسف

من مليون ونصف مليون إنسان إلى حوالي 300 ألف انخفض عدد المسيحيين في العراق عبر العشرين سنة الماضية. لم يُغفر لهم أنهم لم يتواطأوا مع المحتل الأميركي ولا أنهم لم يشاركوا في الحرب الأهلية، ولا حتى زيارة البابا للعراق (2021) دعمت وجودهم مواطنين أصلاء سبقوا الجميع في عراقيتهم. لقد تحالف الجميع ضدهم على رغم أن أسلافهم تركوا آثاراً تشير إلى لمساتهم الحضارية في كل مكان من العراق، بدءاً من البصرة وانتهاءً بالموصل مروراً بالكوفة. لا يجرؤ أحد منهم على أن يقول إن "العراق كان مسيحياً قبل ظهور الإسلام". ذلك لأن إيران بعدما هيمنت على العراق فرضت عليه تاريخاً لا مكان للمسيحيين فيه. كما أن متشددي الإسلام السياسي، شيعة وسنة يعتبرونهم من مزوري العقيدة المسيحية الذين تحوم عليهم شبهات الكفر. والكافر لا يحق أن يعيش في بلاد المسلمين حتى لو دفع الجزية. وإذا ما كانت مأساة الأيزيديين قد احتلت أخبارها الصفحات الأولى في الصحف العالمية بسبب ما تخللها من عمليات استعباد واغتصاب وامتهان للكرامة الإنسانية، فإن مأساة مسيحيي العراق لم يلتفت إليها أحد. ذلك لأن فصولها قد جرت بصمت وكتمان، كما أن تنظيم "داعش" لم يكن إلا طرفاً ثانوياً فيها. كانت مأساة الأيزيديين وسيلة لإدانة "داعش"، أما مأساة المسيحيين التي تدين الجميع فقد تم التغافل عنها. قبل أن يتم تفجير جامع النوري في الموصل كانت كنائس بغداد والبصرة والموصل قد تعرضت للتفجير. كما أن أسواقاً يملكونها نُسفت وهُدد أصحابها بالقتل إذا لم يهاجروا، وهو ما يُذكّر بما حدث في أحياء اليهود في بغداد في السنوات الأولى من خمسينات القرن الماضي.

من بناة العراق الحديث

عبر العصور كان لمسيحيي العراق حضور بارز في مختلف المجالات. وإذا ما كان التاريخ القديم قد حفظ أسماء الملك النعمان ابن منذر والمترجمين حنين ابن إسحاق وابنه إسحاق والشاعرين عبد المسيح ابن بقيلة وعدي ابن زيد العبادي والطبيب ابن بطلان، فإن التاريخ المعاصر حافل بالأسماء التي ترك أصحابها أثراً مهماً في البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للعراق. أذكر على سبيل المثال اللغوي الأب أنستاس مار الكرملي والأخوين الباحثين كوركيس وميخائيل عواد ورئيس جامعة بغداد متى عقراوي والآثاري بهنام أبو الصوف والأخوين منير وجميل بشير والموسيقي حنا بطرس وابنه باسم والمطربتين عفيفة اسكندر وسيتا هاكوبيان والمسرحي عوني كرومي ومؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) والشاعرين يوسف الصائغ وسركون بولص ولاعبي كرة القدم عمو بابا ودوكلص عزيز والقاص إدمون صبري والروائيين صاموئيل شمعون وإنعام كجه جي والصحافي روفائيل بطي والاقتصادي يوسف رزق الله غنيمة والمذيعة كلاديس يوسف والملحن وديع خنده، وأخيراً وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز. وقد يشعر المرء بالحرج أمامهم حين يؤكد مسيحيتهم لأن كل واحد منهم خدم العراق في مشروعه ولم يعفه دينه عن أداء واجبه الوطني في دولة حديثة لم تحرمهم يوماً من أي حق من حقوق المواطنة. ذلك ما كانت عليه الحال يوم كانت الدولة العراقية قائمة حتى في أشد حالاتها ضعفاً. كان مسيحيو العراق عراقيين حقيقيين وكانوا يظنون أن عراقيتهم تكفي لإبعاد سوء الفهم عنهم وسوء الظن بهم. ولكن ذلك بدا تقديراً خاطئاً.

مواطنة ضاعت في متاهة الأقليات

"الحق على المسيحيين" يُقال بإشفاق لا يخلو من الخبث. وهو قول يتعارض مع الحقيقة. فإن كان بعض المسيحيين يتطلع إلى حياة أفضل اقتصادياً في بلدان المهجر، وبخاصة في الولايات المتحدة، فإن ذلك لا يعني أن أغلبيتهم عاشت في عزلة عن المجتمع العراقي. كل ما يُقال عن التحيز الشعبي ضد المسيحيين في العراق من مرويات ليس صحيحاً. لقد كانت لهم نواديهم الاجتماعية وهو أمر طبيعي. كانت تلك النوادي تمنح عضويتها للأصدقاء من غير المسيحيين بكل يسر. كما أنهم لم يعيشوا في أحياء مغلقة كما اليهود. كان بيتي في بغداد يتوسط بيتي "أبي روني" و"أبي طوني" وهما مسيحيان. كنت محظوظاً بجيرتهما. غالباً ما كانت ابنتي الصغيرة تقضي جل أوقاتها برعاية كلوديت وهي الأخت الكبيرة لروني. المفارقة أن أبا روني الذي هاجر في ثمانينات القرن العشرين من البصرة إلى بغداد بسبب حرب إيران والذي لم يتوقف عن الحلم بالعودة بعائلته إلى بيته في البصرة، مات ولم يعرف أن أولاده الذين كبروا لم يحققوا حلمه في العودة إلى البصرة، بل ذهبوا مضطرين إلى الولايات المتحدة بعد الزلزال الذي ضرب العراق عام 2003. عراقية جاري القديم بكل نزاهة جذورها ومقاصدها لم تقف حائلاً بين أبنائه وبين شعورهم بالخوف. بعدما شرعن الدستور الجديد العراق باعتباره دولة مكونات، فإن المسيحيين صاروا أقلية، وهو ما لم يكونوا عليه في سالف أيامهم. هناك فرق بين أن تكون مواطناً وأن تكون فرداً في أقلية. غير أنه كان لا بد من أن يكون للمسيحيين حضور في حفلة القسوة التي أقامتها أحزاب الإسلام السياسي. لقد اعتُبر ذلك نوعاً من الاعتراف بوجودهم السياسي وهو وجود زائف تم تدبيره عن طريق شخص اسمه ريان الكلداني الذي أسس ميليشيا "بابليون" التابعة للحشد الشعبي. كان مهماً بالنسبة إلى ميليشيات الحشد الشعبي أن تكون لها واجهة مسيحية من أجل أن تكون غطاءً لتوسعها في سهل نينوى الذي يسكنه المسيحيون.

شعب جديد تائه

في دولة يُراد لها أن تكون دينية (إسلامية شيعية متشددة) مثل العراق، لا يمكن أن يكون لأتباع الديانات الأخرى أن يستمروا في البقاء على أرضها. أتوقع أن الصابئة المندائيين لم يعد لهم أثر في العراق وسيلحق بهم المسيحيون في وقت قريب. في الدولة الدينية لا معنى للمواطنة. لم تعد كل أساليب الطمأنة التي يغلب عليها الطابع التهريجي الدعائي كفيلة بردم الفجوة التي حدثت بين المسيحي العراقي ومواطنته التي صار يشعر بالهلع بسبب تغييبها. فمجرد أن يسمع المرء عبارة "إخوتنا المسيحيين" حتى يدرك أن مواطنته قد وُضعت على الرف ومن الصعب عليه أن يستعيدها. لقد حدث ما يشبه التجريف السكاني من أجل إعداد بيئة مستعدة للقبول بعراق يلغي تعدديته الدينية والعرقية استعداداً لقيام الحاكمية الشيعية، وهي العبارة التي صارت تتردد على ألسنة رجال الدين على المنابر وفي وسائل الاتصال الاجتماعي. من الصعب تخيل عراق من غير مسيحيين، غير أن مسيحيين من غير عراق معناه أن البشرية ستضم شعباً جديداً إلى قائمة شعوبها التائهة.