محمد قواص

يُخفي صمت العواصم الكبرى على "حرب نتنياهو" ضدّ لبنان ضلوعاً علنياً في عملية عسكرية لا رادع، حتى الآن، لحدودها القصوى. باشرت القوات الإسرائيلية عملياتها السيبرانية ثم النارية فيما كان آموس هوكشتاين، مبعوث الرئيس الأميركي، يزور إسرائيل في مهمّة يُفترض أنها للضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية لعدم توسيع حرب غزّة ضدّ لبنان.

آموس هوكشتاين،

لسان حال واشنطن وموفدها يردّد بملل التخوّف من تحوّل حرب القطاع إلى حرب إقليمية كبرى. لكن "الحرب الإقليمية" هي تعبير مقنّع. السياق يعني حصراً انخراطاً مفترضاً ومحتملاً لإيران وميليشياتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن في تفعيل "الجبهات" وتشغيل "وحدتها" على النسق الذي روّج له "حزب الله". فأمينه العام هو صاحب بدعة وجود جبهة موحّدة صدّقت وجودها "كتائب القسام" كأصل ثابت من أصول عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

قبل هوكشتاين، زار رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي الجنرال سي. كيو براون، إسرائيل في 24 آب (أغسطس) الماضي. شملت زيارته اجتماعاً مع القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي "لتقييم التهديدات على الحدود مع لبنان وسوريا". لم يكن الاجتماع بين "أهل الاختصاص" يوحي بتناقض في الرؤى بين الأميركيين والإسرائيليين، بل في كيفية جعلها أكثر انسجاماً وتنسيقاً في مرحلة تنفيذها.

استنتج الجنرال العسكري الأول في الولايات المتحدة بعد جولة في المنطقة، أن "المخاطر على المدى القريب لاتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط انحسرت". ولئن ما برحت واشنطن تردّد الخوف من "الحرب الإقليمية"، فإن معطيات أوحت للإدارة في الولايات المتحدة أن شيئاً كبيراً تغيّر في إيران، وأن حرباً "لإعادة سكان الشمال الإسرائيلي إلى بيوتهم" لن تتسبّب بحرب كبرى.

نشطت صحافة إيران في نشر تقارير تكاد تجزم بأن الردّ "الموعود" على اغتيال قيادي "حماس"، إسماعيل هنيّة، في طهران، بات من الماضي، وأن تحوّلات كبرى تنقل إيران من نمط إلى آخر. لم يكن صدفة أن يرعى مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي هندسة انتخابات رئاسية في 28 حزيران (يونيو) الماضي، أخرجت السياسي الإصلاحي المعتدل مسعود بزشكيان من الخزائن الخلفية، ليصار إلى انتخابه رئيساً للجمهورية.

بدا أن إيران تحتاج إلى واجهة انفتاح على الغرب، بحيث يكون بزشكيان ممثلاً للدولة أمام العالم، ويكون الدبلوماسي المبتسم الشهير لدى دوائر واشنطن، محمد جواد ظريف، مساعداً له وحتى جرت مراضاته حين استقال حرداً. تحدّث الرئيس الإيراني عن مزاج الانفتاح على الغرب مبشّراً بـ"الأخوّة" مع الولايات المتحدة. أخرج مرشد الجمهورية اجتهاد "التراجع التكتيكي"، فيما أطلق وزير الخارجية عباس عراقجي، عروضاً لاستئناف المفاوضات بشأن البرنامج النووي.

على قاعدة هذه المناخات، أعطت واشنطن الضوء الأخضر لقيام إسرائيل بعملية عسكرية متصاعدة متدحرجة الأهداف. وعد الرئيس الأميركي جو بايدن خجلاً ببذل جهود لخفض التصعيد، وأعرب وزير الدفاع لويد أوستن عن "شعور بالقلق"، فيما بادله وزير خارجية بريطانيا ديفيد لامي التعبير عن "شعور بالانزعاج". ولئن أعلن نتنياهو في اجتماع حكومته أن هدف حربه هي فصل لبنان عن غزّة، فإن مستوى عمليات القصف وهول قدراتها التدميرية ومساحة شمولها توحي بأن الهدف بات يتجاوز ذلك "الفصل"، ويتجاوز جدل تنفيذ القرار الأممي الشهير رقم 1701.

يخضع لبنان لقواعد فرط القوة الإسرائيلية وتضخّم الميكيافيلية الإيرانية. ينعم نتنياهو بدعم هستيري غربي منذ ذلك "الطوفان". استنتج بسهولة غضّ طرف دولياً عامّاً، بما في ذلك شلل دول كبرى مثل الصين وروسيا، عن انتهاكات وصلت إلى حدود الإبادة في غزّة. ويتقدّم نحو لبنان متسلّحاً بسيرة جيشه في القطاع، وقدرته على ارتكاب الكبائر من دون وازع. وفيما يدور جدل بشأن احتمالات الحرب البرّية وتوق "حزب الله"، على لسان أمينه العام، لخوضها، فإن مقارنة المحتمل مع تجربة حرب عام 2006 تفضح هوة ساحقة مرعبة.

جرت حرب عام 2006 طوال 33 يوماً، فيما تقترب حرب غزّة من عامها الأول، كأطول حروب إسرائيل منذ إنشائها. جرت في ظل اقتصاد متعافٍ، ومنظومة مصرفية حيوية، وانخراط روتيني مع النظام المالي الدولي. وجرت إدارة تلك الحرب من قبل حكومة، برئاسة فؤاد السنيورة، غير خاضعة لـ"حزب الله"، وتملك علاقات عربية ودولية واسعة. حتى أنه في عزّ تلك الحرب، اخترق وفد موسّع من وزراء الخارجية العرب الحصار، وزاروا بيروت متضامنين مع حكومة لبنان ومصابه. كان البلد جاهزاً، مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً، لاستيعاب النازحين.

أين لبنان من ذلك الزمن؟ وأين موازين القوى المتقابلة بين حربين؟

في حرب 2006 خرج الرئيس السوري بشّار الأسد يتهكم على زعماء عرب يصفهم بـ"أشباه الرجال"، فيما تصمت دمشق في الحرب الراهنة. ويكتشف الرئيس الإيراني في نيويورك أن "حزب الله لا يستطيع أن يقف بمفرده في وجه دولة مسلحة تسليحاً جيداً جداً ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوق كثيراً على أي شيء آخر". صح النوم...!

تدرك إسرائيل هذا الواقع في حساباتها الحربية الراهنة. تعلّمت في حرب 2006 أموراً كثيرة منذ "لجنة فينوغراد" لتقصي الحقائق، مروراً بسياقات إعداد للحرب الراهنة على النحو المذهل الذي شهدناه في الحرب السيبرانية والاختراق الأمني الواسع الذي قضى على مئات من كوادر "حزب الله" خلال 11 شهراً الأخيرة، وانتهاء باغتيال كبار قياداته في الأيام الأخيرة. وفيما تروّج الرؤوس الحامية لعجز إسرائيل عن خوض الحرب البريّة، تدعو الرؤوس الباردة إلى الاتعاظ من مزاعم ذلك العجز في الأيام الأولى لحرب غزّة، حين شكّك المشكّكون في احتمالات الأمر إلى أن بات القطاع مساحة دمار من بشر وحجر.

يحتاج التراجع إلى شجاعة وحكمة. كان للخميني عبقرية الإقدام حين قبل "تجرّع سمّ" وقف الحرب مع العراق. بدا الرجل واعياً للواقع، مدركاً موازين قواه، حريصاً على مصالح بلاده وحماية شعبه. هل الأمر مستحيل إلى هذه الدرجة في لبنان؟