اتصل الراعي أبو حسن من بلدة كفركلا الجنوبية بصديق له من الشوف، وقال إن الطائرات الحربية الإسرائيلية تضايقه، وهي تقصف بأحدث الصواريخ في محيط "المراح"، حيث يؤوي قطيعه من الماعز، ولم يعُد بإمكانه البقاء في البلدة، ويحتاج لمكان في إحدى قرى جبل لبنان، لينزح اليه مع قطيعه، ويتجنَّب بذلك مأساة قد تحصل في أي لحظة، لأن طائرة "أ ف 35" (الشبح) - وهي أحدث ما توصلت اليه الصناعة الحربية الأميركية – تسرح وتمرح في سماء الجنوب، وترمي أفتك أنواع الصواريخ فوق البساتين وداليات العنب، وهي تهوى تهديم المنازل، وبلحظات تسوّي بالأرض الحديث منها والقديم، وأحياناً يكون ثمن الصاروخ أكثر من كلفة بناء المنزل الصغير... لا يهمهم "أميركا بتدفع" وفق ما يقول أبو حسن، ويتابع: "لكننا لا نبدُل كل أموالهم وطائراتهم بحبة من تراب الجنوب، فسنعود فور توقف القصف حكماً".
يتنامى منسوب الحقد عند المواطنين تجاه الإدارة الأميركية، رغم أنهم لا يعتبرونها عدوة كما ينظرون إلى إسرائيل، وعدد كبير منهم لديهم أقرباء يعملون في اميركا. أبو حسن الذي انتقل مع قطيعه إلى إحدى القرى الشوفية يسمع أخبار العدوان، ويتساءل بعفوية عن تصريحات صدرت عن مسؤولين في البنتاغون (مقر وزارة الدفاع الأميركية)؛ لماذا يحصُر هؤلاء المشكلة ببعض الرهائن في غزة وبنزوح بعض سكان المستوطنات في شمال إسرائيل بسبب ردّ المقاومة على العدوان، ويتجاهلون عشرات الآلاف من الضحايا والنازحين لدى الطرف الآخر؟ وكون الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الفلسطينيين والاعتداء عليهم وعلى اللبنانيين بوحشية في غزة وفي الضفة الغربية وفي الجنوب، هو السبب الفعلي للمشكلة، فلو أُعطي الفلسطينيون حقوقهم الطبيعية المشروعة بإقامة دولة على أرضهم، ولو توقفت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وأرضه؛ لما حصل ما يحصل.
ويتناول المواطنون اللبنانيون حكايات بسيطة ومُختصرة عن حقيقة ما يجري، وهم يتبادلون القصص التي تعبّر عن صدق، ولو كانت لا تنطلق من ما يتضمنه القانون الدولي. فيقول أحدهم: "لو حصل انفجار في جهاز "بيجر" واحد بمواطن أميركي او بريطاني او إسرائيلي لاعتُبر الأمر إرهاباً، ولكانت قامت القيامة ضدّ العملية، بينما استهداف أكثر من 5000 مواطن لبناني في منازلهم، وبين أطفالهم بعملية التفجير الاسرائيلية المُروِّعة، والتي ينطبق عليها توصيف "المحرقة العصرية"، لم يلق أي اهتمام او أي تعليق أو أي إدانة من المسؤولين الأميركيين وأصدقائهم، رغم أن الأمر يتعارض مع القوانين الدولية التي تحمي معايير الصناعة ومقاييسها، وتمنع استخدام الصناعات المدنية لأغراض القتل والارهاب.
ومقاييسها
لا يفهم المواطنون خلفيات مساندة المسؤولين الأميركيين للمعتدين والوقوف الى جانبهم ودوافعها، وهؤلاء يتحسرون لكون أكبر دولة في العالم، وهي أغنت البشرية بنُظم التطور والتقدّم في المجالات الصحية والصناعية والمالية والعلمية على اختلافها؛ تتصرف كأنها أسيرة لتوجّهات لوبي صهيوني، يسوِّق أفكاراً واهية ليس لها أساس من الصحة، عنيتُ "كذبة أرض الميعاد"، وفي ذلك يتمّ تشويه سمعة أعظم أمّة، لأن إدارتها تنحاز إلى هذه الأفكار المغلوطة، أو من أجل مصالح أشخاص او شركات تستبيح كل القيم لتحقيق نفعية مادية، بينما يتمّ تجاهل قواعد العدالة والحقوق الآدمية، ويُستباح القانون الدولي ويُنسف مبدأ المساواة بين الناس الذي أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ودوافعها
مواقف بعض الإدارة الأميركية لا يفهمها أبو حسن وملايين الأشخاص مثله، إلّا صلفاً متهوراً، لا يليق بأمة أعطت البشرية الكثير، ومواقفها المساندة للعدوان تعطي فرصة للمتطرفين لتجاوز الأصول في سياق حراكهم، أو في إطار المطالبة بحقوقهم، وتستغل هذه الوضعية بعض الدول التي تملك طموحات توسعية لتزيد من منسوب تأثيرها على شعوب تعيش خارج أراضيها. فكيف يمكن تبرير صرف ما يقارب 200 مليون دولار يومياً على المجهودات الحربية الإسرائيلية وهي تُستخدم ضدّ الأبرياء في لبنان وفي فلسطين، وتُدفع من جيوب المكلّف الأميركي، بينما المعتدي الإسرائيلي يعترف بأنه لا يستطيع تغطية تكاليف حربه العدوانية من دون هذا الدعم. والأنكى من كل ذلك؛ هو إرسال حاملات الطائرات والطرادات الحربية الأميركية إلى المنطقة كلما شعرت إسرائيل أنها في حشرةـ كي لا نقول في خطر.
ولدى المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين وعرب آخرين تساؤلات تُشبه علامات التعجُّب التي يبديها الراعي المنكوب أبو حسن: فالتناقضات هائلة في خطابات بعض القادة الغربيين، والأميركيين خصوصاً، وهم يتحدثون عن ديموقراطية إسرائيل، بينما الواقع يؤكّد أن نظامها عنصري مغلق، وفيه تمييز بين فئات المواطنين، والسكان لا ينتمون الى تجانس وطني كما في غالبية دول العالم، والشفافية فيها في المرتبة الأخيرة بين الدول. ويقول أبو حسن بفطريته الطبيعية: "إذا سقط صاروخ او قذيفة في أي مكان على الأراضي اللبنانية يتناقل الإعلام الصور والوقائع فوراً ومن دون أي قيود، بينما لا تسمح إسرائيل بنشر أي صور او معلومات عن نتاج ردود المقاومة، ولا الحديث عن تأثيرها".
لا يرغب المواطنون العرب في عداء مع شعب الولايات المتحدة الأميركية على الإطلاق، ولا يوجد ما يبرِّر مثل هذا العداء إذا مارست الدولة الأقوى في العالم سياسة متوازنة، وعادلة، وبالتالي؛ تنظر الى جروح وآلام الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم على قدم التساوي مع الآخرين، لا سيما الإسرائيليين الذين يحتلون أرض الغير من دون وجه حق. لكن استمرار الانحياز الصلف ودعم المعتدي سيزيدان من منسوب الكراهية والعداء، ولن يكونا في مصلحة الاستقرار.
التعليقات