حسين الراوي
ذُكر أنّ رجلاً من بني فَزَارة بن ذُبْيَان بن بَغيض يُدعى بَيْهس، كان له ستة من الإخوان هو سابعهم وأصغرهم، وكان فيه غباء وحمق وجبن، غار عليهم ذات يوم رجال من بني أشجع.
كان بينهم وبين بني فزارة ثأر وحروب كثيرة، فقتلوا إخوته الستة جميعهم في تلك الغارة المفاجئة، فبقي بَيْهس لوحده فقبضوا عليه، فلما هَمَّ أحدهم بقتله اعترض عليه رفاقه وعنّفوه، لأنَّ قتل بَيْهس يُلحق العار بهم ويجعلهم ندرة للعرب.
فمضت أيام طويلة على هذه الحادثة، حتى سمع بَيْهس من رجل أخبره أن هناك رجالاً من أشجع اجتمعوا في غارٍ يأكلون ويشربون فيه، فقرّر بَيْهس أن يأخذ بثأر إخوته الستة من هؤلاء النفر المجتمعين في ذلك الغار، فذهب مسرعاً إلى خاله أبوحنش، المعروف بشجاعته، فقال له: هل لك في غارٍ فيه ظِباء لعلّنا نصيبُ منها؟ فوافقه على ذلك، ثم انطلق بَيْهَس بخاله حتى جاء به إلى فَمِ الغار، ثم دفع بخاله بقوة إلى داخل الغار، وقال: ضَرْباً أبا حَنَشٍ. فلما رأى أولئك النفر أبا حنش أمامهم، قال بعضهم: إنه أبو حنش البطل. فقال: أبو حنش: «مُكْرَهٌ أخاك لا بَطَل». فانتشر هذا المثل بين العرب بسرعة الضوء.
ذكر هذه الحادثة المَيْداني في كتابه (مَجْمَعُ الأمثال) في قصة المثل «مُكْرَهٌ أخاك لا بَطَل». أنا حالي مع الكتابة السياسية يشبه كثيراً حكاية (أبو حنش) الذي وجد نفسه فجأة وبلا ترتيب واستعداد يقف في مواجهة حتمية مع أُولئك الأشخاص الذين كانوا مجتمعين في الغار!
بالنسبة لنا نحن الكُتاب مُرغمون على الكتابة في السياسة، وليس بمقدورنا أن نبتعد عن الكتابة في السياسة، سواءً تلك السياسة المتعلقة بأوطاننا داخلياً أو خارجياً، أو تلك السياسة الدولية المتعلقة بالعديد من الدول العربية وغير العربية، وهذا لأن الكاتب إنسان يتأثر بما يشعر ويرى ويسمع، ومن حقه كإنسان أن ينفعل ويتفاعل مع القضايا التي تمسه دينياً وقومياً وفكرياً ووجدانياً، فلا تنتظروا من الكاتب أن يكون كبقرة تعيش في أحد السهول البعيدة تأكل وتشرب وتنام، بعيداً عن أي تأثر داخلي أو خارجي يمسها!
في عام 2019 شاركت بمؤتمر دولي في بروكسل كان محوره عن (القراءة) بجميع جوانبها، ومن خلال تلك الأيام التي قضيتها ليلاً ونهاراً في كتابة البحث الخاص بمشاركتي في ذلك المؤتمر لم أجد أي تعريف مُعتمد للقراءة! بل وجدت أن كُل صاحب تجربة ثرية مع القراءة خرج بتعريف خاص به عن القراءة! وكذلك السياسة ليس لها تعريف واحد مُتفق عليه. السياسة هي كلمة ذات تعاريف مختلفة في مضمونها، ومتعددة في أنواعها، ومُنقسمة في علومها الدراسية إلى ثلاثة أقسام، هي: السياسة المقارِنة، والعلاقات الدولية، والفلسفة السياسية.
وتعريف السياسة الخاطئ عند بعض الحكومات العربية المستخلص من وقائع المعاملات والتجارب بينها وبين شعوبها، هي كل فعل أو قول حق أو باطل، يصدر من أي مواطن، يُزعج أو يُحرج أو يكشف كذب أو فشل تجاه قضية ما، تمس الشعب داخلياً أو خارجياً!
في عام 2001 حصل أحد أصدقائي على ترخيص مجلة أسبوعية، وطلب مِني بإلحاح شديد أن أكون رئيساً لتحريرها، فاعتذرت له عن قبول ذلك الطلب، والعذر هو أنني لا أحب أن أكون مسؤولاً عن أحد غير ذاتي فقط، وأن راحة البال لديّ تعادل 10 مرات ذلك الراتب الذي خصصه لي كرئيس لتحرير المجلة. لكني تحت ضغط صداقة العُمر بيني وبينه، ومحبة الأخوّة القديمة بيننا وافقت أن أكون مُشرفاً عاماً على تلك المجلة، بشرط ألا أتقيد بالحضور لمقر تلك المجلة، ولا ألتزم بأي وقت لإتمام أي واجب وظيفي متعلق بأعمال المجلة دون إخلال بمسؤولياتي، ولقد عملت سابقاً مُشرفاً عاماً في ثلاث مجلات كويتية بتلك الصورة.
وحينما أراد صديقي إتمام الإجراءات العامة والتفاصيل الدقيقة الخاصة بترخيص تلك المجلة المتعلق بنوعها وموادها، طلب صديقي أن أرافقه لإدارة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام، وهناك في مكتب احد المسؤولين وبعد أن قدمنا كل ما يلزم لإتمام ترخيص المجلة، بدأ المسؤول يقدم لنا نصائح عامة متعلقة بمحظورات النشر، وشدد علينا أن نبتعد عن كل المقالات والمواضيع السياسية! لكيّ نتجنب المساءلة القانونية وإغلاق المجلة!
فسألت ذلك المسؤول الذي كان فعلاً إنساناً محترماً: هل ستسمحون لي أن أكتب مقالاً عن إنارة الرصيف في الشارع الذي خلف منزلنا المُطفأ منذ أكثر من عام؟ فاكتفى بابتسامة دون إجابة! فسألته مرة أخرى: هل ستسمحون لي أن أكتب مقالاً أنتقد فيه حجم ووزن وثمن رغيف الخبز الذي اعتمدته الحكومة للمواطنين في تلك المخابز الشعبية؟ فدقق النظر في عينيّ وهو يحرك طرف شنبه، وقال: أنت حينها ستكون كتبت في عُمق السياسة!
يقول سالم بن عبدالله الدارودي الشاعر العُماني الرائع:
مواخير السياسة صعب نهضمها
يجوز الكذب فيها والتلون والرياء!
ليس من الوعي والوطنية أن يكون الكاتب دائماً وعلى طول الخط يكتب ضد الحكومة، وليس من الشرف أن يكون الكاتب بصف الحكومة في الباطل، هذا لأن مُهمة الكاتب أنبل بكثير من ذلك الحيّز، الذي يحبسه بين قوسين (مع أو ضد) الحكومة في كل ما يكتبه! لأن دور الكاتب أعلى قيمة بكثير من أن يُحجِم نفسه في قالب وحيد يا حكومي يا معارض!
إنّ من أهم أدوار الكاتب الحقيقي هي أن يكون صادقاً مع نفسه ومع وجعه ومع وطنه ومع من يتابعه، بعيداً عن الانشغال في أي حسابات أُخرى متعلقة بالمكاسب والخسائر الشخصية.
ولابد أن يوطّن الكاتب نفسه على أنه لن يستطيع أن يُرضي كُل الأطراف وكل الجهات وكل العقول في الذي يكتبه، وهذا لأن الله تعالى جعل هناك فروقاً متعددة ومختلفة في كل جوانب وزوايا الحياة، لكن الأهم على الكاتب أن يكتب ما هو صحيح وحق ومُشرّف دون أن يلتفت لتلك الأصوات الخارجة بلا وعي، المغموسة بالهوى والمزاج والتحزب والعنصرية والجهل.
إنّ الكاتب إذا كتب الحق بحبر الصدق بدافع الأمانة فوجد تجاه ما كتبه من بعض الناس الغضب والشتائم والتخوين فإن كل كلمة قاسية ظالمة قِيلت أو كُتبت في حقه فهي ليست إلّا نياشين نجاح ونجوم مضيئة وفراشات مُلوّنة تُزّين قلمه وصدره ودربه.
التعليقات