في سبعينات باريس، كان معارضو شاه إيران، الإسلاميون منهم والماركسيون، يخطّون خلسة على بعض الجدران إدانات لنظامه ودعوات لإسقاطه، تُسارع الشرطة إلى محوها. وكان بعضهم يلتئم في ساحة السوربون لساعات طوال، عارضين صوراً لتعذيب الرجال والنساء في سجون طهران، طالبين من المارة في جادة سان- ميشال التوقيع على عرائض لشجبها... كان نظام الشاه أعتى أنظمة الشرق الأوسط. وكانت تبدو لنا تلك الدعوات، ضعيفةً، هشةً، واهمةً، نستغرب ونحن متجهون في صباحات الشتاء إلى قاعات الدروس، مَن يقوم بها، غير مدرك لجدواها. لكن لم تمضِ سنوات حتى أثبتت التطورات المفاجئة أنهم هم المحقون، ونحن الواهمون.
وفي ثمانينات باريس، في عزّ الحرب الباردة بين المعسكرَين الاشتراكي والليبرالي، كان الاتحاد السوفياتي في عهدة بريجنيف نظاماً حديدياً، هو الأقوى والأكثر استمرارية ومنعة بين أنظمة العالم، لم يعتره وهن منذ ثورة 1917 البولشيفية قبل 80 عاماً. وحين أصدرت المؤرخة الفرنسية هيلين كارير دانكوس عام 1978 كتابها «الإمبراطورية المتشظية» الذي تتوقّع فيه تفكك الاتحاد السوفياتي، بدا مُؤلَّفها أقرب إلى الخيال السياسي. مع ذلك لم يمضِ عقد قصير من الزمن حتى انهار الاتحاد السوفياتي من الداخل انهياراً مفاجئاً وشاملاً، أخذ في طريقه منظومته الاشتراكية برمتها وحائط برلين؛ حصن الستار الحديدي. وبعد أن كانت الآيديولوجيا الماركسية طوال عشرات السنين مهيمنةً على النخب الفكرية التغييرية وعلى الاتجاهات الثورية والإصلاحية في العالم، بشرقه وغربه، في كونها «الاشتراكية العلمية»، و«الطريق الوحيد إلى التحرر والتقدم»، أضحت بين ليلة وضحاها أثراً بعد عين، كأنها لم تكن. إنها انهيارات التاريخ.
والآن، ما الذي يجري في الشرق الأوسط المشتعل منذ عام كامل، وإلى أين؟ ثمة عبارة شائعة تفيد بأن «التاريخ يعيد نفسه». لكنها ليست دقيقة حقاً. صحيح أن «الأسباب نفسها تقود إلى النتائج نفسها»، لكن مع فارق جوهري، إذ ينطبق ذلك على الواقع المادي والفيزيائي البحت، وليس على الواقع البشري، الفردي والجماعي، الأكثر تعقيداً بكثير، نظراً لتعقيد الذات البشرية، حيث يتداخل المادي والروحي والنفسي، العقلي والشعوري، الواعي واللاواعي، إن على مستوى الأفراد أو الجماعات، فيصعب معها التوقع.
لكن الحقيقة التاريخية الوحيدة، التي يثبتها الفكر السوسيولوجي، والإنتروبولوجي، أن الواقع دائم التحول، لا يعرف الثبات. ثمة تحول بطيء لا يُرى كالذي أسقط الاتحاد السوفياتي. وثمة تحول متسارع كالثورة الشعبية التي أسقطت نظام الشاه. كما أن الواقع دوماً أكثر هشاشة مما يبدو عليه، مهما بدا متيناً متماسكاً في الحاضر، في الانهيارَين السوفياتي والإيراني، كما فيما لا حصر له من الحالات. كما يجدر التنبه دوماً إلى معطى آخر بالغ الأهمية في مسار التغيير: يحدث التحوّل دوماً بفعل التقاء العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، مع نسبة متفاوتة من الأهمية للداخل أو الخارج وفقاً لكل حالة. انهار الاتحاد السوفياتي، القوة العسكرية والمخابراتية والآيديولوجية العظمى، من الداخل، بما يشبه «الضربة الثقافية» القاضية، حيث لم يعد النظام قادراً على تلبية حاجة الشعب إلى نمط حياة مختلف. لكن العامل الخارجي في التحول السوفياتي كان مؤثراً أيضاً، وإن غير مرئي، كون نمط الحياة الآخر الذي تاقت إليه الشعوب السوفياتية كان هو بالضبط نمط الحياة الذي روّج له الغرب بالوسائل كافة طوال عقود الحرب الباردة. أما في حالة سقوط نظام الشاه، فقد التقى العامل الداخلي المتمثل في النقمة الشعبية، بالعامل الخارجي القائم على تخلي الولايات المتحدة والغرب عن أهم حلفائهما في الشرق الأوسط؛ لاعتقادهما بأن نظاماً إسلامياً متشدداً يمكنه مواجهة المدِّ الشيوعي السوفياتي في هذه المنطقة من العالم.
والآن ماذا يجري في المنطقة المشتعلة نفسها، خصوصاً بين إيران الثورة وأذرعها من جهة، والكيان الصهيوني والغرب من جهة أخرى؟ ما الذي سينقلب وينهار، وما الذي سيبقى؟
خلافاً لسقوط نظام الشاه وسقوط النظام السوفياتي المفاجئين، هناك مسار تحولي طويل في الشرق الأوسط منذ عام كامل، تلفه الاحتمالات والتكهنات، وتتخلله أفعال أغرب من الخيال. يذكّر ذلك برواية «وقائع موت معلن» للكولومبي غبريال غارسيا ماركيز، حيث يدرك الجميع في تلك القرية أن سانتياغو نصار، المغترب اللبناني الأصل، سيتم قتله، من دون أن يستطيع أحد تفادي ذلك. هل من سانتياغو نصار في اشتعال الشرق الأوسط، ومَن يكون؟
التعليقات