في كتابه "سلام ما بعده سلام"، تنبأ ديفيد فروميكن بحروب أبدية في الشرق الأوسط، بسبب التقسيمات التي خلفتها المصالح الاستعمارية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. إلا أن المخاطر الراهنة المحيقة بمنطقتنا، تتجاوز بكثير توقعات فرومكين. وفي الوقت الذي تنزلق فيه المنطقة نحو دورة جديدة من الحروب والتحولات البنيوية، تصبح مسؤولية صنع السلام، أولاً وأخيراً، مسؤولية وخياراً وطنياً لكل شعوب ودول الإقليم، وإلا فالخراب المديد. مرة أخرى، ينسج التاريخ دراما كارثية للمنطقة، بينما تنزلق الدول والميليشيات المتناحرة نحو حرب كارثية. وإذ تجتمع شياطين الإقليم، تعبث بغبطة ظافرية بدباباتها ومسيّراتها وصواريخها الدقيقة، و... جثث ضحاياها، تعميهم سكرات الانتصارات الصغرى عن هذه اللحظة الأخطر في تاريخ الإقليم. لكن، في الوقت الذي تستنفر فيه إيران وإسرائيل مقدراتهما وعلاقاتهما الدولية في هذه المجابهة، ثمة أسئلة جوهرية تطرحها التجربة التاريخية والمخاطر المستقبلية الماثلة. أول الأسئلة: وماذا بعد؟ ما هو الهدف النهائي لكل طرف في هذه اللعبة. في البدء، ركّزت إسرائيل على تجريد أذرع إيران من قدراتهم، وإبعادهم بعيداً عن حدودها، وكان هذا مفهوماً. فالدرس، الذي تعلمته إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، هو البطلان البات لعقيدتها الحربية السابقة، بالحرب بين الحروب، أو "قص العشب". لكنها، في المقابل لم تنتج استراتيجية بديلة لليوم التالي، إذ لا يتوقع أن تسلم الأراضي التي تحتلها في غزة ولبنان، ما لم تتأكد من أنها لن تشكل قاعدة لخصومها الوجوديين أو لإيران، في حين تعاند ضد أي دور عربي يجنح نحو سلام، ويسحب من إيران ذرائعها وقدراتها العدوانية. يمضي نتانياهو نحو حرب عبثية، تحت عنوان "تأديب" إيران، في مجابهة مفتوحة غاية في الخطورة، لتحقيق هدف خلّبي، ألا وهو كسر نواة القدرة العسكرية الإيرانية، بما فيها القدرات النووية. تعرف إسرائيل، من دروس التاريخ العسكري، أنه ما لم تنتهِ الأمور باحتلال عسكري للبلد المعادي، فلا يمكن تغيير طبيعة أي نظام بمجرد هزيمته. فكيف سيكون الحال مع نظام شمولي عقائدي من عيار نظام إيران. فالأنظمة الشمولية تمعن في إفقار شعبها، بل إنها تستمتع بلذّة بالعقوبات الاقتصادية، ذريعة للمزيد من الهيمنة المجتمعية. لذلك، يبدو ما يفعله نتنياهو عبيثاً! فما الذي يحسبه؟ أيهما أرجح جراء ضرب إيران؟ أن ترفع إيران الراية البيضاء أم أن تندفع أكثر نحو تعزيز قدراتها من جديد وتذخير برنامجها النووي؟ أيهما أرجح؟ أن ينجح نتنياهو بتحييد روسيا بعيداً عن إيران أم أن تفتح روسيا ذراعيها لتحالف عضويّ معها؟ في مواجهة كلا السؤالين، تؤكد تجارب الشرق الأوسط وتجارب روسيا وتجارب العرب، من عبد الناصر إلى حزب البعث في سوريا والعراق، أن الاحتمال الجازم هو الاحتمال الثاني. بل أظن أن العسكرية الإسرائيلية تهمل قراءة التاريخ الفارسي، حيث دأبت فارس في تاريخها على تلقي صدمات الغزو لتحتفظ بكمونها البشري، ثم تلقي بالملايين في أتون حرب رعناء. كانت تلك سيرة الغزوات المتبادلة مع أثينا وروما، وكانت تلك سيرتها مع صدام. الحل المنطقي الوحيد لهذه المعادلة، من وجهة نظر إسرائيل، هو توريط الولايات المتحدة لتحلّ مشكلات نتنياهو. ولعلّي أجزم بأن لا ترامب، ولا هاريس، سيقومان بذلك. فإلى أين يمضي نتنياهو؟ قبل حرب 1967، سأل الرئيس الإسرائيلي ليفي إشكول وزير دفاعه موشي دايان عن تداعيات هزيمة محتملة لإسرائيل، أجاب من على الراديو: "إذا هزمت إسرائيل، فمن المحتمل أن يعني ذلك تدمير الدولة وتدمير أمنها الوجودي". لكن الواقع الجديد يقول إنه ما لم تنتصر إسرائيل بشكل كاسح، باتع، مانع، هذه المرة، فهي خاسرة وجودياً. وجلّ ما تبتغيه إيران أن لا يكتمل انتصار إسرائيل، وأن تزمن الحرب. لكن العنجهية العسكرية لا تزال راكبة رأس نتنياهو ظاناً أن بمقدوره أن يُعيد كرّة 1967. ثم ما الذي تبغيه إيران؟ فبعد أن جرّدت من رأس حربتها، حزب الله، هل تأمل أن تبقي الإقليم ملتهباً لتنهش أعمق في جسد الدول العربية؟ ما هي لعبتها النهائية؟ العودة إلى طبخة تقاسم الإقليم، على لهب منخفض، مع إسرائيل، وتحييد العرب، وبلادهم ساحة مفتوحة للصراع الدولي؟ لعلها تحلم أيضاً في أن تعيد عقارب الساعة في لبنان وسوريا إلى 2006. لكن هيهات! إنها، في كل الأحوال، أضغاث أحلام في جحيم لن يوفر طهران ذاتها. تقترب لحظة الحقيقة، التي ستواجه قريباً طرفي هذا الصراع العبثي. لكن، بانتظار ذلك، يستشري الحريق الإقليمي ليشمل كل الدول العربية الميليشيوية من لبنان إلى العراق إلى سوريا واليمن وغيرها، لتصبح عملياً دار حرب بل دار خراب. أما الدول العربية، التي فهمت حقيقة هذه اللعبة الشيطانية، فإنها تدرك بوضوح رائق، مهمة أن إحباط هذه المخاطر بعيداً عنها، يتطلب العمل بكل طاقتها الدبلوماسية والسياسية، وهو ما تقوم به سراً وعلناً بشكل حثيث. من جهتها، تتفرج أميركا والغرب على نار الحرب تدبّ في الإقليم. يثرثرون أحياناً، وينفخون فيها كثيراً، لكنهم، في نهاية الأمر يرقصون على طبولها. فهم وكما في 2001 يدخلون الحروب "البعيدة"، ثم يملّون، ويغادرون بنزقهم المعهود، تاركين خلفهم من جديد "سلاماً ما بعده سلام"، والكثير من فضلاتهم، والكثير الكثير من الجثث والخراب. فلقد سئمت أميركا ذاتها، بجمهورييها وديمقراطييها، من الجحيم الأبدي في شرقنا الأوسطي. فثمة أشياء أخرى في هذا العالم يمكن القيام بها! وبانتظار ذلك، لا بأس من بيع بعض السلاح وشراء بعض النفط، إذ لا تعبر الكلمات النابية التي يطلقها بايدن ضد نتنياهو، إلا عن قبوله بالانزلاق وراء نتنياهو نحو مجهول لا يملك نتنياهو من ناصيته شيئاً. وفي حين سيتوجب على أميركا اجتراح خطة لاستعادة السلام للإقليم، فإن الظروف الحالية تجعلني أشكّ بقوة في استعداد الولايات المتحدة وحلف الأطلسي لاستخدام عضلاتهم لقسر قوى الصراع، إذ ستحجم أميركا عن التواجد الفاعل، حتى لو تعلّق الأمر بسلام موقّت. وفي المقابل، سيكون من السذاجة التاريخية افتراض دول أخرى لن تدل بدلوها للاستثمار في هذا المستنقع، بل هي تتلمّظ لقنص بعض الصيد المتطاير في غفلة الصراع. وإذ تحتفل روسيا باختراقاتها الأمنية في كل من أميركا وأوروبا والشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل، فإنها تنتظر أية فرصة سانحة للإدلاء بدلوها، للمزيد من استدامة الصراع. ليست هذه توقعات، بل إنه السيناريو الأكثر ترجيحاً.