تتسارع التطورات على الساحة اللبنانية بالتزامن مع تصعيد إقليمي منتظر سيلي الرد الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني مطلع الشهر الجاري. ففيما تعمل إسرائيل على تنفيذ مخطط سيلغي القرار الدولي 1701 ويؤثر على التوزيع الديموغرافي في لبنان، تتابع مراكز صنع القرار في واشنطن وقوى غربية وإقليمية تحضيرات إسرائيل لتوجيه ضربة كبيرة لمواقع عسكرية واستراتيجية في إيران قد تفتح الباب لضربات متبادلة. فالقيادة الإيرانية تشعر بمستوى من التهديد غير مسبوق نتيجة الضربات التي تلقاها "حزب الله" خلال الشهر الأخير. والاستراتيجية العسكرية لإيران تقوم على الدفاع المتقدم، إذ إن "حزب الله" والميليشيات الأخرى التابعة للحرس الثوري في سوريا تشكل القوة المتقدمة لطهران على حدود إسرائيل. فإذا ما سقطت هذه القوة، تصبح إيران عرضة لحرب مباشرة مع إسرائيل وأميركا، وهذا آخر ما تريده طهران. وكذلك فإن اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله والشخص الذي كان يحضر لخلافته السيد هاشم صفي الدين سيؤثر كثيراً على أذرع إيران كافة. فقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني لم يكن بمستوى سلفه قاسم سليماني من ناحية الحنكة العسكرية ولا الكاريزما والقدرة على قيادة مجموعات متنوعة في دول عربية عدة، وبالتالي فإن نصر الله هو من كان يتولى مهمة إدارة هذه المجموعات على مستوى القيادة. والخرق الاستخباراتي والأمني الإسرائيلي في كل من إيران و"حزب الله" في لبنان، قد هز مجموعات محور الممانعة هزاً كبيراً وضرب معنوياتها. وعليه، فإن القيادة الإيرانية تعيش حالة قلق غير مسبوقة من إمكانية انهيار استراتيجيتها العسكرية. وقد ظهر ذلك جلياً في النداء الذي وجهه المرجع الأعلى علي خامنئي من على منبر صلاة الجمعة وباللغة العربية لـ"حزب الله" للاستمرار بالقتال ضد إسرائيل. فهو يدرك أن توقف القتال في لبنان يعني انتقال الحرب المباشرة إلى إيران. ولقد بدأت إسرائيل تكشف لحلفائها في الغرب عن أهداف عملياتها العسكرية في لبنان. فهي تسعى لتقويض قدرات "حزب الله" تقويضاً كبيراً بحيث لا تعود تشكل تهديداً جدياً لها. إذ ستستمر بعمليات الاغتيال ضد قادته وتنوي ملاحقة القيادة الجديدة واستهدافها أينما كانت على الأراضي اللبنانية. كما أنها ستدمر مخازن الأسلحة والذخائر وتضرب طرق المواصلات وقد تعمد لفرض حصار شامل في مرحلة ما. أخطر ما تسرب من نيات إسرائيل هو عزمها على احتلال مساحات من جنوب لبنان قد تصل إلى الليطاني وما بعده في بعض المناطق، ومن ثم تدمير وجرف قرى وبلدات وحرق وإتلاف أحراج ومزروعات ضمن منطقة ستعتبرها جزءاً من حزام أمني خال من السكان قد يتراوح عمقه بين 10 و15 كيلومتراً. ولن تسمح إسرائيل لأهالي هذه البلدات بالعودة إليها بحجة ضمان أمن المستوطنات الشمالية ولوجود أماكن في لبنان يمكن أن ينتقل سكان هذه القرى إليها. تهجير الآلاف من سكان الجنوب إلى مناطق لبنانية أخرى ومنعهم من العودة سيؤثر على التوزيع الديموغرافي في بلد تعصف فيه النزاعات الطائفية والمذهبية. فما زال لبنان بلا رئيس للجمهورية وتديره حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحية تحت إشراف مجلس نيابي منقسم بشدة في بلد منهار اقتصادياً. التعامل مع موجة تهجير مؤقتة شيء، لكن تداعيات التعامل مع تهجير طويل الأمد هي شيء آخر وستكون كبيرة وخطيرة. ولقد بدأت تظهر احتكاكات بين النازحين وأهالي بعض المناطق على خلفية وجود أسلحة أو مسؤولين لـ"حزب الله" بما يعرض سكان هذه المناطق للخطر. وتتصاعد حدة الخطابات من القوى اللبنانية المعارضة لـ"حزب الله" وتطالبه بفك ارتباطه عن إيران والقبول بوقف إطلاق النار والانسحاب لشمال خط الليطاني والسماح بنشر الجيش. لكن الحزب ما زال يرفض هذه الشروط ويصر على أن استراتيجيته باستنزاف إسرائيل ستنتصر وتجبر إسرائيل على وقف الحرب والانسحاب. لكن الانقسام الداخلي سيزداد حدة مع طول فترة الحرب وازدياد حجم الدمار وسيطرة إسرائيل على المزيد من أراضي جنوب لبنان. ففيما تعتمد استراتيجية "حزب الله" على عامل الوقت لاستنزاف إسرائيل اقتصادياً وبشرياً، فإن الأخيرة تعتمد أيضاً على عامل الوقت لاحتلال المزيد من الأراضي بوتيرة بطيئة لتبقي عدد قتلاها منخفضاً ولتلحق أكبر قدر ممكن من الخسائر بقدرات "حزب الله" العسكرية وتوسيع دائرة هجماتها جغرافياً لتفاقم أزمة النزوح وتضاعف الشرخ الداخلي بين القوى والطوائف اللبنانية. وعامل الوقت هو عادة من مصلحة من يملك الحجم الأكبر من القوة عسكرياً واقتصادياً وديبلوماسياً، وبالتالي فهو من مصلحة إسرائيل. وتشير مصادر مطلعة في واشنطن إلى أن حكومة إسرائيل اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو باتت بوضع أفضل بكثير من السابق داخلياً. كما أن إنجازات إسرائيل العسكرية أكسبت نتنياهو شعبية في عدد من أروقة صنع القرار بالغرب التي تتطلع إلى فرص جديدة يمكن البناء عليها في الصراع مع محور الممانعة بقيادة إيران. لكن المشكلة الأساسية تبقى في التوافق مع نتنياهو على خطة لليوم التالي لانتهاء الحرب، إن كان في غزة أو حتى لبنان. ويبدو أن هذا الأمر سيؤجل لمعرفة شكل نهاية جولات المواجهة المباشرة المرتقبة بين إسرائيل وإيران والتي قد تنجر الولايات المتحدة إليها. فكل رد سيتبعه رد من طرف آخر إلى أن يقرر أحدهما أو كلاهما وقف ذلك. وحسب المصادر في واشنطن، فإن إيران استخدمت بهجومها الأخير صواريخ بالستية أحدث من تلك في هجمات نيسان (أبريل)، وحققت إصابات. وعليه، فإن هدف إسرائيل الأول في هجماتها المرتقبة سيكون برنامج إيران للصواريخ البالستية، إذ ستعمد لضرب قواعد الصواريخ تحت الأرض ومنشآت تصنيعها. فالصواريخ البالستية أثبتت فعاليتها أكثر من المسيرات والصواريخ الجوالة في هجوم مباشر على إسرائيل، وبالتالي فهي ستكون السلاح الأهم بالترسانة الإيرانية الذي يهدد إسرائيل. كما أنها وسيلة إيران لحمل رؤوس نووية مستقبلاً.