من الأوفق ان نتفق على أن الساحة الشرق أوسطية وما يجري فيها من صراعات، تتناولها ثلاثة أنواع من التحليلات: الأول هو أن هناك حرب تحرير، وهي التي سوف تنتصر في نهاية الأمر (مع كل تفاصيل النقاش الدائرة حولنا في هذا الاتجاه)، والثاني أن هذه الحروب عبثية وتخلف الخراب والدمار وترجع القضية والدول الى سنوات طويلة مضت وتفقر الشعوب وتشيع القمع، والثالث ينتظر أن يقنعه أحد، وبشكل عقلاني، بتفسير ما يدور، هذه الشريحة الثالثة هي المقصودة بهذا الحديث. الحرب قضية لا تؤخذ بخفة إلا عند أولئك الذين تنقصهم البصيرة، وبعد الحرب العالمية الثانية الرهيبة دخل العالم في توازن قوى سمى الصراع بين القوى "الحرب الباردة" وتحول الصراع الى حروب بالنيابة. من بين تلك الحروب ما حدث في الشرق الأوسط. ربما كانت بدايتها حرب العراق وإيران التي كانت طهران بدأت تتحدث عن تصدير الثورة قبلها بسبب قصر نظر وربما صلف جاهل، عندما شن النظام السابق حرباً عراقية على إيران. كان ذلك قصور في الرؤية وثقة بالنفس منبعها الغرور والجهل، أكثر منها حسابات عقلانية، واستمرت ثماني سنوات، لها ما لها وعليها ما عليها. خطيئة النظام العراقي أنه تجاهل حكمة عدم شن حرب على ثورة حديثة، فقدم لها خدمة من حيث رص الصفوف للدفاع عن الوطن، لكن النظام الإيراني، حتى بعدما تجرع كأس السم، كما عبر الخميني وقتها بقبوله وقف اطلاق النار، استمر وساعدته ظروف سقوط النظام العراقي عام 2003 على دفع اجندته باستخدام مجموعة من الأذرع من اجل دفع مساحة سيطرته ومصالحه من دون ان يتورط في حرب، مع كم هائل من الأموال والسلاح، تحت ذريعة القضية المنكوبة فلسطين، فاستخدم "حزب الله" في العراق كمدفع سائب، أولاً خرب لبنان من خلال القوة العسكرية والإغراء بالمال والسلطة لبعض القوى اللبنانية، من ثم استخدم في سوريا، وأيضا في اليمن، وقام بزرع العديد من الخلايا في بلدان عربية، كل تلك الخلايا تأتمر بأمر إيران. انها استراتيجية الحرب بالنيابة التي نجحت الى حد التفاخر بأن ايران تسيطر على أربع عواصم عربية! بعدما قررت إيران أن تستخدم حليفتها في غزة حركة "حماس" بطريقة تفوق قدرة الأخيرة على التصدي لمطرقة إسرائيل الثقيلة، تداعت الأمور إلى أن وصلت الى الاشتباك مباشرة بين إسرائيل وإيران، اذ شهدنا انتهاء الحرب بالنيابة. الحرب بالأصالة كانت "مدوزنة"، فلا إسرائيل راغبة في حرب كبرى ضد إيران، لأنها لا تحقق مصالح لها، ولا إيران راغبة في حرب أو قادرة على هزيمة إسرائيل كما تدعي. في الفترة بين الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2024 الى 26 منه، أي موعد الرد الإسرائيلي، طافت الديبلوماسية الإيرانية على عواصم عديدة، الغرض أن يتم تخفيف أي رد فعل إسرائيلي، كما هددت تل أبيب، ويبدو أنه في الـ 25 يوماً التي انقضت بين التاريخين تم اتفاق خلف الأبواب المغلقة على أن تكون الضربة الانتقامية الإسرائيلية خفيفة شرط أن تكف إيران عن التدخل وتترك اذرعها للتصفية الكاملة، مع ضباب كثيف من البروباغندا التي تستهلكها جماعة التحليل الأول المشار اليه سابقاً. لقد بدأ قلب الصفحة، فلبنان لن يعود ساحة للتدمير الداخلي وتعطيل الدولة والتدمير الخارجي، و لن يعود شيء اسمه "محور الممانعة " وتخسر القضية الفلسطينية الكثير من قدرتها المعنوية لكسب تعاطف العالم ، ولن يعود العراق الثقب الأسود الذي يخلص إيران من بعض ضغوط الحصار الاقتصادي. السؤال الآن: هل الموقف الإيراني صاحب "الاتفاق خلف أبواب مغلقة" هو موقف استراتيجي أم تكتيكي؟ سوف يقول بعضهم انه تكتيكي للتخلص من الضغوط، ذلك ممكن، لكن الأرجح أنه استراتيجي، ولولا ذلك لما قبلته الأطراف الأخرى، وربما يكون تحسباً لمجيء الإدارة الأميركية الجديدة التي تتفق في الأهداف مع الإدارة المغادرة لكنها تختلف في الوسائل. لقد اختار الأسد الإيراني الانسحاب كما يبدو في التحيل النهائي الذي يقدم الى الشريحة الثالثة .
- آخر تحديث :
التعليقات