ثمة عامل مشترك فعال ومؤثر في كل قضية أو صراع يشغل العالم راهناً؛ إنه عامل التزييف، أو الشائعات والأخبار المُضللة، وهذا العامل لا يجسد مشكلة لأنظمة المعلومات المحلية والدولية فقط، لكنه يمثل تحدياً خطيراً للأمن والسلم العالميين، ويهدد بتقويضهما.

وبينما تتركز أنظار العالم راهناً على قضية الصراع العسكري في منطقة الشرق الأوسط من جانب، والانتخابات الرئاسية الأميركية المنتظرة من جانب آخر، تلعب الأخبار الزائفة دوراً فائق الأهمية في هاتين القضيتين، وتحرف اتجاهات الجمهور إزاءهما، وتغير قراراته وتوجهاته.

وإلى جانب هاتين القضيتين الآنيتين والمثيرتين للاهتمام، تبرز مجموعة من القضايا الأخرى، التي تتأثر تأثراً كبيراً بشيوع التضليل والاختلاق، وهي قضايا لا تقل أهمية عنهما.

مشكلة الشائعات والأخبار الزائفة قديمة، وربما هي بقدم التاريخ ذاته، لكن ديناميات الوسط الاتصالي العالمي الراهنة ترفد هذه المشكلة بالمزيد من القدرة على التفاقم والتأثير.

لقد تم استخدام المعلومات الزائفة والأخبار والفيديوهات والصور المنزوعة من السياق بكثرة خلال أزمة «حرب غزة»، ولعل الأنباء عن قيام حركة «حماس» بعمليات عنف جنسي منهجية ضد مدنيين إسرائيليين في مستهل عملية «طوفان الأقصى»، كانت عاملاً حاسماً في تأطير صور الصراع وطرفيه، إلى حد أن بعض كبار الساسة وصُناع القرار في دول كبرى تبنوا تلك الأخبار، وعدّوها عنصراً في بناء تصورهم السياسي وقراراتهم إزاء تلك الحرب، قبل أن تحسم لجنة تحقيق دولية متخصصة أمرها، وتقرر عدم صحتها.

وفي ملف الانتخابات الأميركية، لا يتوقف الطرفان المتنافسان عن استخدام الأخبار الزائفة والصور والفيديوهات المنزوعة من السياق لإحداث أثر سياسي معين، وأحد هذين الطرفين يُمعن في هذا المضمار، ويحشد قواه بشغف، وصولاً إلى بناء «نظريات المؤامرة»، التي يتبناها قطاع من الجمهور، ويتخذ موقفاً سياسياً استناداً إليها.

بموازاة ذلك، ما زالت الأخبار الزائفة في شأن التغير المناخي تشكّل معضلة كبيرة وعقبة صعبة أمام جهود الاستجابة؛ إذ تفيد التقارير الموثوقة الصادرة عن جهات مُعتبرة بأن عملية التشكيك في التغير المناخي تحظى بتصديق قطاعات واسعة من الجمهور، وتعطل عمليات المواجهة، وتحد من قدرة السياسيين والمُشرعين على اتخاذ القرارات السليمة.

وبينما تتزايد أعداد اللاجئين والنازحين والمهاجرين حول العالم باطراد، بسبب الحروب والنزاعات والفساد والاضطهاد والتمييز بشتى أنواعه، تُشن حروب يومية تستهدف هؤلاء اللاجئين، وتشيطنهم، بشكل يحمل قطاعات من الجمهور والمؤسسات على اتخاذ قرارات خاطئة، وإشعال صراعات تفاقم معاناة اللاجئين، وتحبط خطط استيعابهم أو مساعدتهم.

وبسبب ازدهار أنشطة وسائل «التواصل الاجتماعي»، وقابليتها الكبيرة للاختراق والتزييف، لكونها لا تُخضع كثيراً مما يبث عبرها إلى آليات التحقق، ولا تطلب توثيقاً، زاد استخدام تلك الوسائل في استهداف اللاجئين في مناطق مختلفة من العالم.

وعندما يذيع الساسة، أصحاب المصالح الحزبية الضيقة، أخباراً زائفة عن هؤلاء المهاجرين واللاجئين، تستهدف الحطّ من شأنهم، أو تخويف الجمهور منهم، فإن تلك الأخبار تكتسب طاقة انتشار هائلة عبر الصيغة الشبكية لتلك الوسائل، وتضحى في مقام الحقائق، وهو أمر يسبب عواقب وخيمة.

لقد أدى الصعود اللافت للنزعات اليمينية، وأفكار معاداة الأجانب، تحت وطأة المتاعب الاقتصادية، إلى تصديق قطاعات من الجمهور لتلك الأخبار المُضللة، والتصرف على أساسها، وهو الأمر الذي ينعكس في حوادث عنف واستهداف تُقلق المجتمعات، وتزعزع سلمها الأهلي.

وكانت جائحة «كوفيد - 19»، وما ترتب عليها من أزمة في القطاعات الصحية والاجتماعية والاقتصادية عبر العالم، أنموذجاً واضح الدلالة على ما يمكن أن تسببه الأخبار الزائفة من كوارث؛ إذ تم إشاعة «نظريات المؤامرة» بشأنها، كما جرى التشكيك في اللقاحات، وتزعزعت الثقة في الحكومات والمؤسسات الصحية، مما أعاق جهود المواجهة.

ولاحظ الخبراء والباحثون المتخصصون أن الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغيرات المناخية العالمية حظيت بموجة مُدبرة من التشكيك والتزييف، بشكل أعاق جهود الإغاثة. ولم تكن المناشدات والمطالبات المتكررة للقائمين على تشغيل وسائل «التواصل الاجتماعي» الرئيسة قادرة على الحد من الانفلات الذي تعرفه تلك الوسائل في مقاربة الأنباء الخاصة بتلك الكوارث وضحاياها.

بسبب رغبة وسائل «التواصل الاجتماعي» في الحفاظ على حجم التفاعلات عبرها، وزيادته باطّراد، تُخفق جهود الضبط في إدراك مراميها، في ظل حقيقة أن الأخبار الزائفة تحظى بدرجة اهتمام ومشاركة وانتشار أكبر من الأخبار الصحيحة.

ينشغل النظام الدولي راهناً بكثير من القضايا الساخنة والحيوية، لكن مشكلة الأخبار الزائفة ما زالت غائبة عن رأس قائمة أولوياته، وهو أمر سيفاقم أزمات نظم المعلومات المحلية والدولية، وسيطرح المزيد من الأخطار.