قلّ في تاريخ الولايات المتحدة أن تقيّد رئيس بوعوده الانتخابية بالشكل الذي زاوله دونالد ترامب في ولايته “الأولى”. حيث انقضّ حال وصوله إلى البيت الأبيض على كل من قانون الرعاية الصحية المعروف بالأوباماكير واتفاق “خطة العمل المشتركة” مع إيران. لم يستطع تقويض قانون الرعاية بالكامل، واضطر للاكتفاء بتقليص جوانب منه (التقليل من إلزاميته) وسرعان ما أعادت إدارة الرئيس جو بايدن تعزيز الأوباماكير. في المقابل، لم تستطع إدارة بايدن تغيير قيد أنملة في كل القرارات التي اتخذها ترامب المتصلة بالشرق الأوسط. لا من جهة رتق الاتفاق المطاح به مع الجمهورية الإسلامية، ولا من جهة التفكير حتى بالعدول عن نقله السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، أو عن التصديق على الضمّ الإسرائيلي لهضبة الجولان السوريّة المحتلّة.

كان ترامب واضحاً منذ البدء أنّه لا يقيم لمسألة الديمقراطيّة أي اعتبار في السياسة الخارجية، ولا يميّز بين طاغية وآخر في العالم الثالث إلا على قاعدة المصالح الحيويّة لبلاده. شعارات بايدن أوحت بأنّ في مستطاعه غير ذلك، لتختصر في النهاية الديمقراطية عند إدارته في الدفاع عن ثلاث. أوكرانيا، إنما بشكل لم يظهر أن لأمريكا ودول الغرب طرحا لتجاوز استطالة الحرب الأطول في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تؤسس لمناخ “العالمية الثالثة”. تايوان، إنما بالشكل الذي أوجد تمايزاً بين “اقتحامية” نانسي بيلوسي في زيارتها الاستفزازية إلى الجزيرة وبين حذر بايدن. وإسرائيل، التي غطّت إدارة بايدن حربها التدميرية لقطاع غزة ثم حربها التدميرية للمناطق ذات الكثافة الشيعية في لبنان.

حدّد ترامب أولويّاته إبان ولايته “الأولى” واحترمها. فالأولوية الجيوبوليتكية عنده كانت للمواجهة مع الصين شرق آسيا، ومع إيران غرب آسيا. مع مفارقة أنه استخف بالدول المواجهة للصين شرقي القارة، وبخاصة اليابان (فرض الرسوم على الصلب والألمنيوم اليابانيين، المطالبة بتقاسم الأعباء العسكرية) وكوريا الجنوبية (المتضررة هي الأخرى من الحمائية الأمريكية ومن سلبية ترامب تجاه الاتفاقات التجارية معها ودعوته لإعادة النظر فيها) ، والمتوجسة من قمة ترامب مع الزعيم الشمالي في سنغافورة 2018. أما في الشرق الأوسط، فقد انعكس الوضوح الترامبي في معاداة إيران مع ضغط من إدارته على أصدقاء بلاده من العرب لفض الصراع مع إسرائيل من أساسه، وبعيداً عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”.

سعى الرئيس الشعبويّ في المقابل لضبط حدة التوتر مع روسيا التي ورثها من إدارة سلفه باراك أوباما، وعلى خلفية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. بل ذهب ترامب بعيداً في محاولة فتح كوة في جدار المقاطعة الغربية المتزايدة لموسكو، من خلال عقده قمة هلسنكي مع الرئيس فلاديمير بوتين في يوليو 2018، مظهراً “تسامحاً” مع الأخير، بالشكل الذي جرى التشنيع عليه في أمريكا باعتباره استهتاراً بالأمن القومي.

باختصار، نجح ترامب قبيل وصوله في وضع تسلسل هرمي لنوعية المخاطر على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، موجهاً السلبية في المقام الأول ضد الصين، ثم ضد إيران في الشرق الأوسط، ومشككاً، في أكثر من معرض ونوبة، بكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. في المقابل، عاد بايدن إلى أولوية العداء لروسيا، بشكل تجاوز أكثر اللحظات توتراً زمن الحرب الباردة، لكنه تخبّط يمنة ويسرة في السياسة تجاه الصين وإيران. ليس هذا فقط، بل وجد أن معظم دول العالم خارج المجموعة الغربية تواصل التعاون مع موسكو بشكل يخفّف عن الأخيرة وإلى حد كبير من ثقل العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية.

في مقابل ترامب الذي التزم بخطابه الانتخابي مدة رئاسته، لم يلتزم بايدن إلا بالأهداف الداخلية التي حدّدها قبل خمس سنوات. في السياسة الخارجية، انتهى كل نبذه للإسلاموفوبيا وخطاب الكراهية إلى الحصيلة التالية: تسليم أفغانستان لحركة طالبان، ومعاونة بنيامين نتنياهو على حربه التدميرية المتواصلة، وعدم القدرة على صياغة أي شيء مفيد من الاختلاف مع نتنياهو حول الوضع في “اليوم التالي” بغزة، وحول إقامة دولة فلسطينية “ما” من عدمها.

كمالا هاريس ترث هذه الحصيلة. انسجام نسبي بين وعود الديمقراطيين في الداخل الأمريكية وبين ما تحقق، في مقابل عشوائية مخيفة حيال أوضاع العالم. في الوقت نفسه، تخوض هاريس السباق بعد أربع سنوات كانت عملياً محتجبة فيها عن المشهد. وهي الآن تريد في وقت واحد أن تجني ثمار ما حققه بايدن من إيجابيات في الداخل، باعتبارها شريكة في هذا، وتحاول أن تنأى بنفسها نسبياً عن حال العالم بعد أربع سنوات من رئاسة بايدن، من دون أن يكون لديها أي قدرة على تحديد واضح وتراتبي لمصادر الخطر على المصالح العليا للإمبراطورية الأمريكية.

كثيراً ما يقال إن الداخل وليس حال العالم هو ما يحكم توجهات الناخب الأمريكي. هذا صحيح وخاطئ في وقت واحد. صحيح لأن معظم الذين يصوتون لهذا المرشح أو ذاك يفعلون ذلك تبعاً للسياسة الداخلية، سواء من زاوية ما تحقق أو لم يتحقق، أو من جهة القيم التي يرونها في هذا الشخص أو ذاك. لكن، عندما تكون المنافسة محتدمة، والأصوات متقاربة، عندها لا يمكن التقليل من أهمية السياسة الخارجية وحصيلتها. كما لا يمكن إقامة حاجز فاصل على طول الخط بين الخارج والداخل، طالما أن المسائل المتعلقة بالقيم وبالهوية تصل بين البعدين.

هل لكمالا هاريس ما به تتميز عن تجربة بايدن في السياسة الخارجية؟ لا يبدو. شرط هذا التمايز القدرة على التمييز بين موسكو وبكين وطهران وليس توزيع السلبية على الثلاثة معاً. بايدن لم يتمكن من ذلك. هاريس لا يبدو كيف يسعها القيام بذلك. ترامب وحده أبرز شيئاً من هذا القبيل. إنما بشكل هلامي. يريد إيقاف الحروب من أوكرانيا إلى لبنان وغزة. لا نعرف كيف. بل أكثر، مقارنة بحملته عام 2016 فالرجل يبدو أقل وضوحاً الآن. ربما كانت مشكلته أنّه يعتمد فوق اللزوم على “النوستالجيا” لولايته الأولى. تلك الولاية التي راج النظر إليها آنذاك على أنها بداية “هرج ومرج” كونيين، يُنظر إليها اليوم على أنها كانت مرحلة أكثر استقراراً مما تلاها. على أنها آخر شكل للعالم قبل دخوله في “مناخ الحرب العالمية الثالثة” الطويل، هذا المناخ المتسم في طوره الأول، أي الى الآن، بالحروب المتجاورة، من روسيا – أوكرانيا، إلى الحرب في الشرق الأوسط، إلى الحرب في ليبيا والسودان، وبتصاعد التوتر أكثر فأكثر بين الصين وبين تايوان.

لقد شهدنا منذ عامين، اضطرار ستة ملايين أوكراني، وخمسة ملايين سوداني للنزوح واللجوء في الداخل والخارج، ويضاف إليهم مليونا فلسطيني في قطاع غزة، قُتل منهم خمسون ألفاً، ويهجّر الباقون مرة صوب شمال القطاع ومرة صوب جنوبه، ومن ثم مليون وربع المليون لبناني، معظمهم من الشيعة، في وقت يتفرج الكوكب على تفجير وتدمير قراهم ومدنهم. هذا ناهيك عن ملايين السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين النازحين واللاجئين. أزيد من أربعين مليون انسان اضطر لترك منزله عنوة في السنوات العشر الأخيرة. “مناخ العالمية الثالثة” يوحي بأن مجتمعات عديدة سوف تقاسي المصير نفسه في القادم من سنين. اختزال مسألة بهذه الحدة وهذه السعة، المسألة العالمية للاجئين والنازحين، بمسألة “المهاجرين” إلى الغرب ومن يحق لهم القدوم ومن لا، لا يساهم إلا بمفاقمة المشكلة.