دخلت فرنسا في مسار تغيير عميق بعد الانتخابات الأخيرة البرلمانية، التي جرت في مطلع شهر يوليو/تموز الماضي، مع تقدم «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي تنضوي تحت لوائها الأحزاب اليسارية، ولا سيما حزب فرنسا غير الخاضعة أو «الأبية» بقيادة جان لوك ميلانشون. ولم تحصل أية كتلة على أغلبية مطلقة في البرلمان، في سابقة سياسية لم تحدث في فرنسا من قبل.

لقد أدت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى تأجيج المشهد السياسي الفرنسي، حيث أصبحت معاداة السامية وانتقاد إسرائيل قضيتين رئيسيتين في الانتخابات. فقد انتقد حزب «فرنسا غير الخاضعة» بقيادة جان لوك ميلانشون، إسرائيل بشدة، بسبب حربها في غزة التي وصفها ميلانشون بأنها «حرب إبادة جماعية»، ما أثار اتهامات من حكومة ماكرون بأن خطابه يؤدي إلى تأجيج حالة العداء للسامية في فرنسا. وفي المقابل فقد أعلن ميلانشون أنه: «سوف يدعم أي مرشح من «حزب التجمع الوطني» في جميع الدوائر التي يتصدر فيها مرشح التجمع».

وإزاء ذلك فقد طلب الرئيس ماكرون من رئيس الحكومة غابريال أتال تشكيل حكومة جديدة، مع استبعاد حزب فرنسا الأبية الذي حل في المركز الأول، وأيضاً استبعاد حزب التجمع الوطني الذي حلّ في المركز الثالث، ومباشرة قدّم حزب فرنسا الأبية مشروع قرار إلى الجمعية الوطنية «البرلمان»، من أجل عزل الرئيس، واستند هذا الحزب إلى نص المادة 68 من الدستور الفرنسي، والتي تسمح بإقالة الرئيس في حالة الإخلال بواجباته.

وقد وافقت أعلى هيئة تنفيذية في البرلمان على مقترح العزل، بعد تصويت الأغلبية اليسارية داخل مكتب الجمعية الوطنية لصالح القرار باثني عشر صوتاً مقابل عشرة أصوات. ويجب أيضاً الموافقة على القرار من قبل اللجنة التشريعية المكونة من 73 نائباً، حيث يشغل اليسار 24 مقعداً فقط. وبعد ذلك، يتعين أن يتم تمريره من قبل ثلثي الجمعية الوطنية من أصل (577) نائباً، في غضون أسبوعين. وإذا حدث هذا، فسوف يضطر الرئيس إلى الاستقالة على الفور.

لقد أربكت الانتخابات الأخيرة للجمعية الوطنية المشهد السياسي في فرنسا، حيث لم يحظَ أي حزب أو تيار بأغلبية مريحة، فتحالف الجبهة الشعبية الجديدة، الذي يضمّ، الحزب الاشتراكي، وحزب فرنسا الأبية بزعامة ميلانشون، قد حظي بمئة واثنين وثمانين مقعداً، بينما حصل المستقلون اليساريون على ثلاثة عشر مقعداً، وتراجع التكتل الوسطي للرئيس إيمانويل ماكرون إلى المركز الثاني في الجمعية الوطنية بمئة وثمانية مقاعد، وحصل حزب التجمع الوطني المتطرف على مئة وثلاثة وأربعين مقعداً، بينما حصل «الجمهوريون» على خمسة وأربعين مقعداً، كما حصل مرشحون مستقلون آخرون من اليمين على خمسة عشر مقعداً.

ومع هذه الخريطة السياسية المتعددة الأوجه والاتجاهات، يبدو من الصعب على حزب فرنسا الأبية أن يجمع حوله الأغلبية المطلوبة لعزل الرئيس، ومن المرجح أن الرئيس سيبقى في منصبه، لكنه سيفقد القدرة على إدارة الدولة بشكل سليم. وكان رئيس الوزراء السلابق غابريال أتال قد تعثر في تشكيل الحكومة، ما دفع الرئيس ماكرون إلى تكليف «ميشيل بارنييه»، المنتمي لحزب الجمهوريين المحافظ، بتشكيل حكومة جديدة، وهذه الحكومة التي ظهرت في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، والمؤلفة من تسعة وثلاثين وزيراً أغلبهم من أحزاب الوسط والأحزاب المحافظة، ربما لن يكون بمقدورها الاستمرار في الحكم، وإذا استمرت فإنها لن تكون قادرة على التصرف بحريّة، بسبب قوة المعارضة لها من قبل الجبهة الشعبية اليسارية، والجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة.

ومن المعروف أن النظام السياسي الفرنسي هو نظام رئاسي، وليس برلمانياً، والرئيس هو الذي يحكم، وليس رئيس الحكومة، وفي ظل تراجع حزب ماكرون وتقدم أحزاب المعارضة، فإن الرئيس لن يتمكن من تمرير مشاريع القوانين في البرلمان، وسوف تصاب الدولة الفرنسية بالشلل إلى أن يحين موعد الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2027، وربما يكون الشعب الفرنسي أمام منحنى خطِر، فالأزمة الاقتصادية الخانقة، والتحولات الديمغرافية الكبيرة، باتت تضغط بقوة نحو ثورة لا لون ولا شكل لها، بل ربما عنف لا يمكن تأطيره تحت أي إطار، فالاقتصاد الفرنسي متوقف عن النمو بشكل شبه كامل، ونسبة النمو هذا العام بلغت 0,7 في المئة، وفق تقديرات الاتحاد الأوروبي، وبلغ الدين العام مئة وثلاثة عشر في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن يرتفع خلال السنوات المقبلة.

وقد فرضت الحكومة الفرنسية، مؤخراً، برنامجاً للتقشف يقلل من المصروفات في بنود الموازنة، مما أضرّ بعموم الشعب الفرنسي، وقد تصاعد التوتر كثيراً، حيث لم تهدأ المظاهرات في الشوارع. وأصبح بعضها عنيفاً، لأن جزءاً كبيراً من الشعب الفرنسي غاضب فقد تمّ تجاهله لعقود من الزمن، خاصة الجالية المسلمة حيث يعيش خمسة ملايين مسلم مهمشين.

ومن دون شك فإن الأمة الفرنسية في أزمة، والأمور تتغير، والنقطة المحورية المطروحة للنقاش داخل فرنسا الآن هي: هل تنفجر الأزمة الفرنسية قبل نهاية هذا العام أم يتمّ ترحيلها إلى العام المقبل؟.