حين قرأت رواية يوسف السباعي «أنا حرة»، كنت ما أزل صبية صغيرة، كانت الرواية حينها تطرح مفهوم الحرية كمشروع للتمرّد على المجتمع بأعرافه وتقاليده، ثم تطوّر هذا المفهوم مع روايات أخرى، أصبحت تطرح قضية الحرية من منطلق سياسي وفكري وعقائدي، فجاءت رواية «ملحمة الجذور» للكاتب ألكس هيلي، لتعالج مفهوم الحرية من منسوب آخر، الحرية من القيود والعبودية والانتهازية والاستغلال، بينما فتحت رواية جورج أورويل كل الأبواب المغلقة، وطرحت قضية الحرية بجرأة فريدة ونبوءات أصبحنا نعيشها اليوم، جورج أورويل عاصر صعود النازية والفاشية، وبداية أفول الإمبراطورية البريطانية، وشهد أهوال الحرب العالمية الثانية، وكان شاهداً على مرحلة ما بين الحربين، التي اختصرت مخاضاً فكرياً وسياسياً بشرياً، الأمر الذي أتاح لجورج أورويل الخروج برؤية أو نبوءة لما هو قادم في المستقبل، فكتب روايته 1984 في عام 1949، لتتحول هذه الرواية فيما بعد من مجرّد رواية أدبية إلى نبوءة للعصر الحديث.
روايته تحدّثت عن الحرية بشكل خاص، حيث تقع أحداثها في مجتمع شمولي خيالي، يتم فيه قمع وحظر الفردية والفكر المستقل من قِبَل الحزب الحاكم، وحيث يتصدّر الشخصيات الرئيسية في الرواية، الأخ الأكبر الغامض، الذي يحكم بقبضة من حديد، ويقمع المعارضة من خلال المراقبة والدعاية والخوف.
جورج أورويل إذًا تنبأ بأنظمة، مثل صدام حسين والقذافي والنميري وغيرهم، ممن مارسوا لعبة الأخ الأكبر، فأغلقوا كل منفذ من منافذ الحرية، لكنهم جميعاً سقطوا بفعل الحرية كذلك، والتي يقول التاريخ إنه بالإمكان أن يطول قمعها، لكنه لا يدوم.
ما بين صرخة دريد لحام في مسرحية «كاسك يا وطن»، حين قال: «الله وكيلك مو ناقصنا إلا شوية كرامة»، وبين ما كتَبَ الراحل محمد الماغوط، يمتد طابور طويل من الأدباء والمسرحيين العرب، الذين تطرّقوا لمسألة الحرية في أكثر من عمل ورواية ومسرحية وشعر، يقول الماغوط في إحداها: «كلما أمطرت الحرية في أي مكان في العالم.. يُسارِعُ كل نظام عربي إلى رفع المظلة فوق شعبه خوفاً عليه من الزكام»، أما الشاعر الكويتي الراحل فهد العسكر، فقد شهدت دواوينه صولات وجولات مع الحرية كمبدأ وقيمة واستحقاق، حارب التقاليد ، حين قال:
وتطاول المتعصّبون وما كفرتُ فكفّروني
وتحاملوا ظلماً وعدواناً علي وأرهبوني
هذا رماني بالشذوذ وذا رماني بالجنونِ
ولم يخلُ شعره من دفاع حازم عن الحرية بكل أشكالها، آملاً بوطن حر يعيش فيه الناس أحراراً حين قال:
وطني وما أقسى الحياة به على الحر الأمين
وألذ بين ربوعه من عيشتي كأس المنون
قد كنتَ فردوس الدَّخيل وجنة النذل الخؤون
لهفي على الأحرار فيك وهم بأعماق السجون
للحرية تعريفات كثيرة ومختلفة، بعضها يتم تطويقه وتهذيبه، ومن ثمّ تطويعه ليتلاءم مع معايير مجتمع ما، وبعضها يقول إن الحرية تتوقّف عند الاصطدام بحرية الآخرين. لكن في المقابل، هنالك من يرى في التعريف الأخير ما يُعَد انتقاصاً من الحرية كقيمة، وأن الحرية في جوهرها لا تتوقف أبداً، ولا تعرف حدوداً ولا سقفاً، وهو بالتحديد ما أصبح يؤمن به شباب اليوم، الذي فَتَحَت له طاقات التواصل والتكنولوجيا مجالات للحرية بلا حدود، وبشكل أصبح يصطدم، وبحدّة، مع مفهوم الحرية، الذي عاش عليه جيل الآباء والمخضرمين من أهل السياسة والفكر.
في مشهد ساخر، وأيضاً من مسرحية «كاسك يا وطن»، يدور حوار بين غوار وأبيه الشهيد، الذي يريد أن يطمئن على أحوال الوطن، فيسأله الأب عن الحرية، فيرد غوار «بتبوس إيدك»، فيجيب الأب: «تعني ما صفّى فيه سجون؟»، فيرد غوار بأن السجون تحوّلت إلى مدارس ومستشفيات، ثم يختم الأب الشهيد مُعدّدًا لابنه نِعَم الجنة، التي يعيش فيها، فيرد غوار بأن لديه كل شيء، لديه موز صومالي، وتلفزيون ملون، وجبنه 200 نوع، ثم سأله عندكم لافاش كيري؟
لتنتهي المكالمة مُختَصِرة وبشكل ساخر قيمة الحرية في العديد من بلدان العالم العربي.
التعليقات