يخطئُ الكثيرون حين يتناقلون السائد أَو المكرَّر فيحصرون فيروز بمجرد "مطربة" أَو "مغنِّية" أَو "فنانة" أَو "نجمة" أَو "أَيقونة" أَو "سفيرتنا إِلى النجوم"، فيما جميع هذه التسميات تبقى قاصرةً عن هيبة فيروز وأَثرها في الناس، ونشْرها لبنانَ بصوتها وأَدائها بالمحكية اللبنانية والفُصحى العربية في أَكبر المدن والعواصم، وعلى أَشهر المسارح في العالم. يميِّز فيروز أَنها ذاتُ مواهبَ خمس: 1.الصوت المفرد بخامته وأَوتاره الفريدة: حين جلسْتُ ساعاتٍ طويلةً إِلى منصور الرحباني إِبّان وضْع كتابي "في رحاب الأَخوين رحباني"، ردَّد لي غير مرة بأَن صوت فيروز "نادر جدًّا"، وكرَّر لي: "منذ جاءَت فيروز إِلى حياتنا، عاصي وأَنا، جاءَت متوَّجَة بالمجد". وإِذ استفسرتُ أَضاف أَن صوتها مـرَّ في أَصعب التجارب والطبقات العالية والخفيضة والتموُّجات والعُرَب الصوتية، ولَمع فيها جميعها لِما يتمتّع به صوتها من جمال أَخَّاذ". 2.الإِحساس النادر: كان لي أَن أَشهد على لحظةٍ من إِحساسها حين رافقْتُ عاصي ومنصور إِلى عمَّان لافتتاح مسرحية "بترا" (1977). وفيها أَنَّ الملكة، عند اكتشافها أَن الجند الرومان خطفوا ابنتها الصغيرة بترا، راحت تغني بأَلم: "زغيرِه وما بتعرف بلِعْب الكبارـ كانت عتلعب، أَخدها النسر وطار... يا زغيرِه يا عصفورِة البكي اغفريلي... واللي بيوجعني إِني التهَيْت وانشغلْت عنِك، وكم مرَّه بمرَّه قول بْعَوِّض بُكرا، ما تاري الأَحبَّه عَ غفلِه بيروحوا، وما بيعطُوا خبر، ع غفلِه بيروحوا". وعند أَدائها الجملة الأَخيرة انحدرَت دمعةُ تأَثُّر على خدِّها الأَيسر. وكان المصوِّر الفوتوغرافي فاروجان سريعًا بالتقاط صورة لها في تلك اللحظة الوميضة. ولاحقًا، حين صدرَت تلك الصورة مكبَّرة بشكل "بوستر ملوَّن"، كان مَن يراه يرى لؤْلؤَتين: حبة اللؤْلؤ على تاج الملكة، والدمعة الحافية على خَدّ فيروز. 3.الأَداء الصوتي الراقي: فيروز على المسرح تحترم جمهورها بأَدائها الأَرقى، فتحمل جمهورها إِلى الحماسة معها حين تغني له قصائد ثائرة أَو غاضبة أَو للوطن الغالي، وإِلى الذوبان معها حين تغني قصائد الحب والحنين. وهي تحترم جمهورها حين تغنّي بأَن تقف أَمامه ملكة حقيقية، تبتسم له بنُبل، وتنحني لتصفيقه بنُبل، حتى إِذا غادرت المسرح تأْخذ معها قلوب جمهورها بــحُب كثير. 4.اللفظ ومخارج الحروف: حين تغني فيروز القصائد الفصحى تنبثق من بين شفتيها الثاء والذال والقاف كأَنها بصوتها ترسم الحروف على فضاء ملوَّن، فتلفظ الحروف بكامل إِيقاعها الحلْقي أَو التعبيري. وهذا نادر جدًّا في معظم مغنيات جيلها، ومفقود تمامًا بين معظم مغنيات الجيل التالي. 5. الأَداء التمثيلي الكامل: عدا هذه المواهب الأَربع أَعلاه، وما للأَخوين رحباني - وخصوصًا عاصي العبقري الخالد - من حصة صقْل وتجارب فيها، لفيروز موهبة في التمثيل مذهلة الأَداء. فهي الثورة مع "غربة" ضد فاتك المتسلِّط ("جبال الصوَّان") وهي "زاد الخير" ضد الملك غيبون ("ناطورة المفاتيح")، وهي بياعة البندورة ("الشخص")، وهي "عطر الليل" رسولة الخير إِلى بناء لبنان ("فخر الدين")، وهي هيفا عند جدِّها بو ديب في الدكان ("يعيش يعيش")، وهي "عدلا" في مشتى الديب (فيلم "سفر برلك")، وهي "نجمة" التي أَقلقَت ضيعتَها كْفَرغار لتعيد والدها إِلى الحراسة الليلية (فيلم "بنت الحارس")...، وتطول لائحة الأَعمال الرحبانية المبدعة التي أَطلَقتْها فيروز للخلود مسرحًا وأَفلامًا وحلقات تلفزيونية وأُغنيات منفصلة، وفيروز فيها جميعها لا يُذَكِّر دورٌ جديد لها بأَيّ دور سابق. ذلك أَن موهبتها التمثيلية تعادل مواهبَها الأَربع التي ذكرتُها أَعلاه، فإِذا الخمس المواهب تنجمع في ظاهرة واحدة عنوانها فيروز التي غدَت عنوانًا مضيئًا آخر للبنان في العالم. في تسعينها هذا العام، نتعلَّم كيف الخُلود يعطى لسيدة تحمل في صمتها العميق أَنَّاتٍ لا يطيقها احتمال، وترسل لنا صوتها الخالد بأَعمال رحبانية خالدة نابضة فينا كلَّ يوم... "تَ تخلص الدني".