توقفت الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" وأعلن كل من الطرفين انتصاره. نتنياهو بشّر الإسرائيليين بأنه وجّه ضربة شبه قاضية للحزب وأبعده عن الحدود الشمالية التي سيعود المستوطنون إلى منازلهم فيها قريباً، وحقق الفصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة، وضمن التزاماً أميركياً شديداً بأمن إسرائيل متبوعاً بسيل من المساعدات العسكرية النوعية. و"حزب الله" زفّ إلى بيئه وإلى اللبنانيين عموماً بشرى انتصاره، إذ منع نتنياهو من تحقيق أهدافه المعلنة عند انطلاق حرب الشهرين ونيف، فلم يصل جيشه إلى نهر الليطاني، ولم يقض على سلاح الحزب الذي وقف في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية وظل يرمي المستوطنات والمدن الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات المسيرة حتى الساعات الأخيرة من الحرب. في حرب تموز (يوليو) 2006، وفيما كان الجميع يعتقد أن هزيمة نزلت بـ"حزب الله" (ولبنان) عسكرياً، تعالت الأصوات داخل إسرائيل من سياسيين وعسكريين سابقين ومحللين معتبرة أن إسرائيل خسرت الحرب لأنها لم تستطع دخول الأراضي اللبنانية ووقفت عاجزة في سهل بلدة الخيام حيث أمطر مقاتلو "حزب الله" دباباتها بوابل من صواريخ "الكورنيت". كان مشهد دبابات الميركافا وهي تحترق في السهل القشة التي قصمت ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت. وربما لهذا عمد الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب إلى تدمير المدينة واقتحامها، حتى لو لم يتمكن من احتلالها كلياً ولو لساعات. فاجأت حرب تموز إسرائيل، كان "حزب الله" يقاتلها من تحت الأرض بسلاح لم تتوقعه، وبخط إمداد عمل على مدى سنوات من إيران عبر العراق وسوريا وعبر البحر أيضاً، لكن الحرب الأخيرة لم تكن كذلك. في حرب تموز كان غموض سلاح الحزب وسريته وانضباطه الشديد مصادر قوته التي أضفت عليها هالة السيد حسن نصرالله قوة معنوية هائلة، أما في هذه الحرب فقد فاجأت إسرائيل الحزب الذي كان في سنوات ما بعد الـ2006 قد انفلش بشكل واسع وفقد الكثير من حديديته مطمئناً إلى ترسانته التي باتت تضم مئات الآلاف من الصواريخ الإيرانية المتعددة الأسماء والقياسات وإلى خطاب قادة إيران المضخّم عن قدرتها على تدمير إسرائيل ببضع دقائق، ما سمح باختراق صفوفه وصفوف بيئته، لا سيما بعد انخراطه في الحرب السورية التي كشفت الكثير من كوادره العليا والوسيطة. حال الاسترخاء الأمني والرخاء المادي التي عاشها الحزب خلال السنوات الأخيرة كانت نقطة دخلت منها إسرائيل استخبارياً لتوجه ضربات نوعية قاتلة: ضربة "البيجر" واغتيال القادة العسكريين ثم السياسيين والروحيين، وأخطرها اغتيال الأمين العام -الرمز السيد حسن نصرالله ثم خليفته المحتمل السيد هاشم صفي الدين. كانت إسرائيل تعتقد أن اغتيال نصرالله سيكون الضربة القاضية على الحزب، لكنه وإن كان ضربة كبيرة جداً، لم يمنع المستوى العسكري من إكمال المعركة. هنا يتحدث عارفون بهيكلية الحزب وبكوادره عن أن المعركة يقودها كوادر الصفين الثاني والثالث وأن هذا المستوى من القيادة الوسيطة حافظ على تماسكه وعلى رجاله الذين كانوا يقودون المعركة، حتى من دون الحاجة إلى التواصل مع القيادة المركزية إلا في القرارات الكبيرة، وهو ما يفسر الحفاظ على الوتيرة العالية من القتال رغم اغتيال كل قادة الصف الأول تقريباً. توقفت الحرب وذهب نتنياهو ليتفرغ لحرب غزة التي قد تسلك المفاوضات لإنهائها مساراً جدياً بـ"أوامر" من دونالد ترامب الذي يريد أن يعود إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) مرتاحاً منها ليتفرغ لحل الأزمة الروسية- الأوكرانية ومعاقبة "حلفائه" في حلف شمال الأطلسي وتدفيعهم تكاليف الدفاع عن أوكرانيا وعن بلدانهم، ولحل أزمة النووي الإيراني، ولو تطلب ذلك دعم صديقه نتنياهو لإتمام المهمة، والأخير عبّر بصراحة في كلمته التي أعلن فيها موافقته على اتفاق وقف النار مع لبنان عن نيته منع إيران من امتلاك السلاح النووي بأي طريقة. أما "حزب الله" فسيجد نفسه أمام مسار سياسي ضاغط في الداخل اللبناني، فما بعد الحرب ليس ما قبلها. التغيير كبير والحزب فقد قيادته التاريخية الصلبة والمحنكة، كما الكثير من حجج التسلح، وكذلك طرق الدعم العسكري الإيراني واللوجستي السوري، فضلاً عن رأي عام لبناني واسع بات يرفض منطق الحرب والمواجهة والانغماس في حروب المنطقة. طبعاً، لا يعني هذا الكلام أنه بات يمكن استضعاف الحزب، فعلى المستوى الداخلي لا يزال قوياً ومتمتعاً بتأييد واسع من طائفته، ولعل الحرب وبعض المواقف السياسية التي تروج لنهاية الحزب، ستشد من عصب الطائفة الشيعية حول الحزب والثنائي الشيعي، وهو ما قد لا يغيّر بالضرورة المعادلات الداخلية أو يسهل الاستحقاقات السياسية المؤجلة. بعض التبصر ضروري وكذلك التواضع.
- آخر تحديث :
التعليقات