في مؤشر لافت على جدية العلاقة الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية، أعطت المكالمة الهاتفية بين رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بعداً جديداً لهذه العلاقة. هذه المكالمة، التي حظيت باهتمام ومتابعة المراقبين والمحللين، دشَّنت مرحلة مهمة من العلاقة قبيل تولي ترمب مهامه الرئاسية لأربع سنوات مقبلة، حيث يتطلع العالم بأسره إلى هذه المرحلة بترقب واهتمام بالغين.

من جانبه، أكد الرئيس السوداني التزام العراق بتعزيز علاقاته مع واشنطن. وبعد المكالمة الهاتفية مع الرئيس ترمب الشهر الماضي، شدد على رؤيته لمستقبل قائم على «المساواة والمصالح المتبادلة». هذا الالتزام بالشراكة الاستراتيجية يعكس حاجة العراق إلى تدعيم ملفه الأمني، لكنه يمتد إلى نطاق أوسع يشمل تنمية قطاعات المال، الاقتصاد، الطاقة، والتكنولوجيا. الالتزام هنا يجسّد وضوح أهداف العراق بالحفاظ على سيادته، وتنمية قدراته، والنهوض بواقعه التنموي، إلى جانب الحفاظ على علاقات متوازنة ومتميزة مع دول الجوار والعالم على حد سواء.

من الواضح أن العراق اليوم يسعى لتحقيق توازن حقيقي بين ترسيخ الأمن والنهوض بالاقتصاد وفق تطلعاته المشروعة، بما يعوّض ما فاته خلال سنوات الحكومات السابقة، وما واجهته من تحديات وتراجع. ولأن الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة تقوم على التعاون العسكري والأمني؛ فإن نية الحكومة الحالية تتجه نحو تعميق هذه الشراكة والبحث عن ملفات تعاون أكثر نفعاً لكلا البلدين، وفي مقدمتها الملف الاقتصادي. هذا التوجه يتماشى مع البرنامج الحكومي لتحقيق ازدهار البلاد واستقرارها على المديين المتوسط والبعيد.

ونظراً لما يشكّله الالتزام المشترك بمكافحة الإرهاب وضمان الأمن الإقليمي، فإن الطرفين يراهنان على مكانة العراق بصفته لاعباً رئيساً في المنطقة، إلى جانب دوره المتقدم في التصدي للإرهاب بجميع تنظيماته ومسمياته. التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يشهد على التضحيات التي قدمتها قوات الأمن العراقية عبر سنوات من المواجهة الشرسة مع قوى الإرهاب. وأكد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في خطاب ألقاه مؤخراً: «لا تزال واشنطن ممتنة للغاية لدور العراق في هذا الجهد المستمر».

ومع تراجع تنظيم «داعش» بشكل كبير، يركز العراق والولايات المتحدة على المرحلة التالية من تعاونهما الأمني. يدرك الطرفان أن بقايا خطاب «داعش» الآيديولوجي لا تزال تشكّل تهديداً للاستقرار، ليس في المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم. انتقال خلايا التنظيم إلى القرن الأفريقي ومساحات أخرى دليل واضح على ذلك. لذلك؛ ستظل المساعدة الأميركية - بما في ذلك التدريب، تبادل المعلومات الاستخباراتية، والخبرة في مكافحة الإرهاب - ذات أهمية بالغة، بخاصة في ظل حاجة العراق إلى تأمين حدوده والحفاظ على أمنه الداخلي، إلى أن يحقق الاكتفاء الذاتي في بناء منظومته الأمنية والعسكرية المتكاملة.

من الواضح أن مكافحة الإرهاب ستبقى محوراً مهماً في العلاقة العراقية - الأميركية على المدى القريب. لكن بالنظر إلى المستقبل، يدرك البلدان أهمية توسيع شراكتهما لتشمل قطاعات أخرى، مثل التنمية الاقتصادية والاستثمار. وخلال زيارته لواشنطن في أبريل (نيسان) الماضي، أعرب السوداني عن رغبة العراق في «فتح فصل جديد» في علاقته مع الولايات المتحدة، يركز على الفرص التجارية والاستثمارية. هذا التوجه ينسجم مع التحول الاقتصادي الجاري في العراق، حيث حقق تقدماً لافتاً في تحديث قطاعه المصرفي، الذي اكتسب مصداقية دولية من خلال الشراكات مع المؤسسات المالية الأميركية الكبرى مثل «جي بي مورغان تشيس» و«سيتي بنك».

ولا يزال قطاع الطاقة يشكّل ركيزة أساسية للعلاقة الاقتصادية بين البلدين. العراق، بكونه أحد أكبر منتجي النفط في العالم، يتمتع بنفوذ كبير في أسواق الطاقة العالمية. تسعى الإصلاحات الجارية في قطاع الطاقة بالعراق، مثل استغلال الغاز المصاحب بشكل أمثل، إلى جذب المزيد من الاستثمارات الأميركية. شراكات مثل التعاون مع شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية لتطوير حقول الغاز ومشاريع الطاقة تعكس هذا الالتزام. كما تسهم الاستثمارات في مشاريع البنى التحتية للطاقة، مثل تطوير محطة للغاز الطبيعي المسال في ميناء الفاو بالتعاون مع شركة «كي بي آر» الأميركية، في تعزيز دور العراق بصفته لاعباً مركزياً في أسواق الطاقة العالمية.

إلى جانب الأمن والطاقة، يفتح البلدان أبواباً جديدة للتعاون في قطاعات مثل الزراعة، الرعاية الصحية، التكنولوجيا، والتعليم. العراق، الذي يسعى إلى تنويع اقتصاده والخروج من إرث الصراعات، يطمح إلى بناء شراكات تعزز بنيته التحتية وتنمية رأسماله البشري. توفر هذه الشراكات فوائد متبادلة؛ إذ تتيح للشركات الأميركية الوصول إلى سوق سريعة التطور، بينما يستفيد العراق من الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة.

تعد العلاقة العراقية - الأميركية عاملاً حاسماً في استقرار المنطقة وازدهارها. مع استمرار العراق في إعادة البناء وتأكيد سيادته، تظل الولايات المتحدة شريكاً لا غنى عنه. ومع ذلك، لنجاح هذه الشراكة، يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. العراق، بكونه دولة مستقلة، يجب أن تعكس علاقاته سيادته وأولوياته الوطنية، سواء مع الولايات المتحدة أو مع الدول الأخرى.

الفرص المتاحة أمام العراق والولايات المتحدة لتوسيع شراكتهما هائلة. ومن خلال الالتزام الصحيح، يمكن أن تصل هذه الشراكة إلى مستويات غير مسبوقة، بما يعود بالنفع المشترك على البلدين، ويحقق استقرار المنطقة لعقود مقبلة.

* مستشار رئيس وزراء العراق

للعلاقات الخارجية