عبر منصته الاجتماعية «تروث سوشيال»، كتب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، منذراً ومحذّراً مجموعة دول «بريكس»، من التفكير في بلورة عملة عالمية جديدة، أو دعم أي عملة أخرى، الأمر الذي سيواجَه بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المائة، كما أن الدول التي ستسعى في هذا المدار، ينبغي عليها توديع الدخول في عالم الاقتصاد الأميركي، وإيجاد «مغفل آخر»، على حد تعبيره.

بدأ ترمب بالفعل في تنفيذ ما وعد به خلال حملته الانتخابية، بأنه سيجعل من المكلِّف للدول الابتعاد عن الدولار، وهو ما ناقشته قمة دول «بريكس» الأخيرة، وترى أن الحاجة ماسَّة إليه، لا سيما بعد العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا.

لماذا يخشى ترمب من دول «بريكس»؟

تبدو القصة أكبر وأشمل من هذه الدول، وتمتد المخاوف القطبية الأميركية من جماعات القوى المتوسطة، الصاعدة في أعلى عليين، ضمن مسارات التعددية العالمية القائمة والقادمة لا محالة.

يعود تاريخ مفهوم «القوة الوسطى» إلى أصول نظام الدولة الأوروبية الذي أرسى قواعدَه المفكرُ والفيلسوف الإيطالي جيوفاني بوتيرو، في القرن السادس عشر، حيث قسم العالم إلى ثلاثة أنواع من الدول: إمبراطوريات، وقوى متوسطة، وقوى صغيرة.

وفق بوتيرو، تتمتع القوى المتوسطة، بقوة وسلطة كامنتين لجعلها تقف على قدميها، من دون الحاجة إلى طلب المساعدة من دول أخرى.

لم يعد سراً أن هناك الكثير من القوى المتوسطة حول العالم، التي باتت تبحث لها عن موضع قدم على الخريطة الدولية، لا سيما بعد أن انكشف المشهد العالمي خلال أزمة جائحة كوفيد- 19، من خلال توقف سلال الإمداد، للدواء والغذاء، عطفاً على ما يتسبب فيه الكبار من أزمة للمناخ العالمي، وتقصيرهم عن مداواة الداء، إلا بتصريحات جوفاء.

ترفض الدول المتوسطة حالة عدم الاستقرار التي تسود عالمنا المعاصر، وتسعى عوضاً عن ذلك في طريق تكتلات لا تحمل صبغات آيديولوجية، ولا ترفع شعارات دوغمائية، بل تبحث في ما ييسِّر حياة مواطنيها، ضمن الأطر الاستراتيجية الدولية المتغيرة بسرعة كبيرة.

ساهم تراجع الأوزان النسبية للهيمنة الأميركية، وقصور القدرات الأوروبية، وتعثر الدور الروسي، في زيادة موجات القومية الباحثة عن نقاط ارتكاز جديدة، تُزخِّمها عوضاً عن الحاجة إلى الدوران في فلك الكبار دائمي الخذلان لحلفائهم.

تدرك هذه القوى الصاعدة حاجة القوة العظمى إليها، لوجيستياً على الأقل، ولهذا باتت تنخرط في ألعاب القوة الدولية ومناوراتها، تتأرجح تارةً بين التعاون، وتتراجع تارةً أخرى ضمن صفوف المعارضة، وفي الأمرين يبقى نُصب أعينها، تعزيز مصالحها الخاصة، وفي كل الأحوال توفر المنافسةُ الشديدة العالية المخاطر بين القوى العظمى، والتعاونُ المتقطع، أرضاً خصبة للقوى المتوسطة لتأكيد نفوذها.

ترفض القوى المتوسطة محاولات الإقصاء من جانب القوى الغربية التقليدية بنوع خاص، التي تشترط الالتزام بمنظومتها القيمية، وكثيراً ما يضحى الخط الليبرالي الغربي، الذي انتقل من مربع الحرية إلى مربع الفوضى الأخلاقية، أحد أهم مستوجبات المسير مع العالم المتقدم، كما يراه أصحابه.

من هنا يبدو جلياً أن «بريكس» وتوسعاته، فرصة جيدة للغاية لمناورة القوى المتوسطة، في ظل تحولات النظام العالمي، الذي يسير في اتجاه نهاية الأحادية القطبية القائمة على هيمنة الولايات المتحدة الأميركية بوصفها قوة عظمى، نتيجة صعود قوى دولية وإقليمية جديدة تلعب أدواراً متزايدة في مجال السياسة والاقتصاد العالميين، وبخاصة في ظل انتقال مركز الثقل السياسي والاقتصادي من الغرب إلى الشرق ومن الدول المتقدمة إلى الدول الصاعدة.

هل تفيد تهديدات ترمب وهو على عتبات ولاية جديدة أخيرة؟

فلسفياً يقال إنه «ما من قوة تستطيع أن تقف في وجه فكرة حان أوانها»، وعليه فإن إنكار انتقال قلب العالم شرقاً وجنوباً لا يفيد إدارة أميركية، يمكن أن تكون شريكاً في ديناميكية أممية تعاونية، لا قوة فوقية إمبريالية تقليدية عفّى عليها الزمن.

تعلم تلك القوى البازغة تمام العلم أن العصر الذي كان بوسع الولايات المتحدة أن تضمن فيه الامتثال والدعم من دون عناء، يتلاشى، والدليل على ذلك أنماط التصويت الأخيرة في الأمم المتحدة.

يبدو التحالف الصيني – الروسي، نقطة جذب لقوى متوسطة، تجعل واشنطن منزعجة، لا سيما حال انضمام كوريا الشمالية وإيران إليهما.

الهند في آسيا، والبرازيل في جنوب أفريقيا، قوتان متوسطتان صاعدتان تشيان بتحول استراتيجي عالمي، عبر الانتقال من مربعات الولاء والانتماء إلى مواقع أكثر استقلالية.

لدى ترمب فرصة ذهبية لتعزيز الشراكات مع القوى المتوسطة الطموحة غير المؤدلجة، وبعيداً عن فلسفة «ذهب المعز وسيفه».

صياح الديك يعلن أن أميركا لم تعد سيدة قيصر... مَن له أذنان للسمع فليسمع.