شكّل اتفاق الطائف الذي وضع نهاية الحرب في لبنان نموذجاً شديد التوهج لمسار خيبات تاريخيّة متعاقبة، بدأت غداة إبرام ذاك الميثاق مع اغتيال أول رئيس منتخب في عصر الطائف رينيه معوض، بما أخلّ ببعده الدولي لمصلحة الوصاية السورية. تعاقبت الخيبات تباعاً، حقبة تلو الحقبة، وتحديداً لجهة استعصاء نجاح الخط السيادي والليبرالي المنفتح، فيما استأسد خط "المحور الممانع" وراح يمعن في تجويف منهجي تصاعدي لنظام الطائف، بلوغاً إلى الانقضاض عليه غداة عملية 7 أيار (مايو) 2008 في بيروت وفرض "اتفاق الدوحة" وثلثه المعطّل الذي شكّل ذروة الخلل والانحراف بالطائف عن مساره الأصلي. لا بدّ من إنعاش الذاكرة اللبنانية بهذه الحقيقة الآن أمام حقبة ترتسم في طلائعها معالم حقبة "تأسيسية" بعد الحرب الطاحنة التي سحقت لبنان وقيام ما سُمّي اتفاق "وقف العمليات العدائية" بين لبنان وإسرائيل، وعملياً بين إسرائيل و"حزب الله". ذلك أنه بعد أقل من أسبوعين على سريان هذا الاتفاق، بدأت تتصاعد معالم غموض كبير حيال ما عُلّق عليه من رهانات مبرّرة تماماً لجهة إنهاء معضلة أحادية السلطة المسلحة بقوات الشرعية اللبنانية، وتالياً فكفكة البنى المسلحة لـ"حزب الله" وترسانته إنفاذاً للاتفاق وروابطه بالقرارات الدولية، وتحديداً القرارات 1701 و1559 و1680. وعلى غرار مفاجأة عودة "مصرف حزب الله" المسمّى بـ"القرض الحسن" إلى فتح أبواب فروعه واستئناف العمل، بعدما أعلنت إسرائيل تدمير مالية الحزب بغاراتها الكثيفة على كل فروعه في مناطق انتشاره، تصاعدت أيضاً معالم حسابات وتقديرات يرجح أنها بالغت وضخّمت التراجع الاستراتيجي الذي آل إليه الحزب في ظل خسائر كارثية أصابته لم تكن بحجم تلك التقديرات. سيمُرّ وقت غير قصير أبداً قبل جلاء معظم الحقائق والوقائع المتصلة بتحجيم الحزب ومن خلفه نفوذ إيران في لبنان. والأمر الأشدّ خطورة في الحقبة اللبنانية الطالعة سيتمثل في الخوف من عودة الالتفاف على الكارثة التي تسببت بها حرب الحزب المسمّاة "حرب المشاغلة" واستدرجت الحرب الإسرائيلية الأشرس على لبنان، بحيث لا يمرّ وقت طويل حتى يتيقن "الحالمون" باستعادة الدولة اللبنانية كلَّ مقومات السيادة الحصرية على الأرض والسلطة والسلاح الشرعي، بأن ما حصل متدرجاً ومتدحرجاً بعد اتفاق الطائف، سيتكرر بأساليب وأنماط محدثة تبعاً لظروف دولية وإقليمية متلونة وغير ثابتة. يسري الأمر على استحقاق ملء شغور رئاسة الجمهورية مثلما يسري على التزام غير مضمون لاتفاق وقف النار مع إسرائيل. فالمعطيات المتصلة بموعد 9 كانون الثاني (يناير) المقبل لعقد جلسة "حاسمة" ونهائية للبرلمان اللبناني لانتخاب رئيس للجمهورية المشلّعة والرازحة تحت وطأة الفراغ الرئاسي والمؤسساتي منذ سنتين وشهرين كما تحت ركام مرعب لحرب مدمّرة، لا تختلف أبداً عن المعطيات المريبة المتصلة بإمكان تحويل اتفاق وقف النار الأخير فرصة نهائية وحاسمة لإعادة الإنعاش للدولة اللبنانية خياراً لبنانياً جماعياً ونهائياً بديلاً من التبعيات الخارجية القاتلة والانتحارية. الرهانات هنا وهناك تتصل بنقطة جوهرية محورية هي لبننة شاملة وكاملة غير منقوصة على مسارات السيادة كما على مسارات النظام الدستوري الديموقراطي، وكلها تصبّ عند مصبّ "الغموض" الكثيف المتعلق بـ"حزب الله" إلى ما بعد هذه الكارثة. ولذا لا يمكن التقليل من خطورة استعادة كابوس "وراثة" من أيام الوصاية السورية المتجددة مع النفوذ الإيراني، أي كابوس تجويف الاتفاقات والمواثيق المعقودة تحت ظروف قاهرة للوارثين الذين يحترفون الانحناء ظرفياً لتمرير العاصفة ومن ثم القفز عكسياً من أفخاخ الخيبات. فاحذروا الإفراط في التقدير!