ينفرد لبنان وحده مقارنة بكل البلدان بظاهرة phenomenon ألا وهي تحالف طائفة من طوائفه الكبرى الثلاث مع قوىً خارجية للاستقواء وأحياناً لإعادة الأمور إلى نصابها واستعادة هيبة السلطة لا بل للوصول إليها!
هذه الفرضيّة (hypothesis) تستتبع إيراد الملاحظات التالية: (i) أحداث 1958 والتي نتُجت عن التدخُّل الناصري في الشؤون اللبنانية وزعزعة الأوضاع بتخطيط وتنفيذ من قبل مدير المخابرات السورية عبد الحميد السرَّاج، زمن الوحدة مع مصر، والتّناغم الإسلامي بمذاهبه السنيّ، والشيعيّ والدرزيّ لا بل التحالف مع الناصرية وتوجّهاتها، كل ذلك أدَّى إلى رفض الجناح المسيحي ممثّلًا برئيس الجمهورية كميل شمعون (وحليفه الحزب السوري القومي الإجتماعي) لواقع الأمر، فكانت مناوشات 1958. وثائق الموساد الإسرائيلية (كما نشرتها الـ "BBC"، 17-9-2022) تكشف أن العلاقة بين اسرائيل واحزاب لبنانية تعود إلى الخمسينيات. وتشير الوثائق الى أن طائرة ارسلها شاه إيران محمد رضى بهلوي لشحن أسلحة من اسرائيل دعماً لكميل شمعون عام 1958. وتشير أيضاً الى أن أول شحنة اسرائيلية كانت في تشرين الثاني عام 1975 إلى حزب الأحرار وتوالت الشحنات إلى بشير وأمين الجميّل. كميل شمعون كان أول من اتصل باسرائيل عام 1975.

لم تَخمُد المناوشات إلّا بوصول قوة أجنبيّة أعني الأسطول السادس الأميركي إلى شواطئ بيروت وانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بدعم أميركي واضح. وكان ذلك من حظ اللبنانيين أن يتبوّأ الرئاسة عملاق كبير كفؤاد شهاب الذي وحَّد البلاد وشرع ببناء دولة الإستقلال بعد الحصول على استقلال الدولة... والتعبير لشهاب نفسه. (ii) تغيّر المشهد ابتداء من عام 1975 لغاية 1982. المسيحيون وبخاصة الموارنة استبدلوا المسلمين لإعادة الأمور إلى نصابها بعدما عانى لبنان من ثنائية السلطة مع المقاومة الفلسطينية المسلَّحة وتجاوزاتها وتسلّطها ولعلّ أبسط مثال ما صرّح به أبو عمار حين وصل إلى غزّة قائلاً: "اللي بيحكم لبنان بيحكم غزّة" إضافة إلى تصريح سابق لأبو أياد قائلاً أن طريق القدس تمر بجونية!! يكفي أيضاً الاستشهاد بما أصبح مؤكَّداً وهو أن أهلنا وأحبّاءنا في الجنوب اللبناني نثروا الأرُزّ على القوات الإسرائيلية بعد وصولها إلى الجنوب عام 1978 تشفّياً من تسلُّط المقاومة الفلسطينية المسلَّحة. القوّة الخارجية في تلك الفترة راوحت بين سوريا وإسرائيل بدلاً من الأسطول الأميركي! في المرحلة الأولى استعانت الجبهة اللبنانية (شمعون، الجميّل، سليمان فرنجية، شارل مالك وادوارد حنين) بدمشق. في هذا الصدد يكشف المبعوث الأميركي دين براون حسب وثائق الخارجية الأميركية والتي كُشف النقاب عنها أن براون أبلغ قياديي الجبهة اللبنانية أنه تبلَّغ من واشنطن اثناء اقامته في بيروت أنّ واشنطن نسّقت مع دمشق وأن الإتفاق تمَّ معها لدخول الجيش السوري إلى لبنان لضبط الوضع. يضيف براون ان شمعون ومالك عارضا ذلك وطالبا إمّا بتدخّل اسرائيل أو اميركا في حين وافق الجميّل وفرنجيّة على الاقتراح. باختصار، قصد الجميّل دمشق واجتمع مع حافظ الأسد فكان دخول الجيش السوري إلى لبنان والذي اشتبك مع مسلّحي المقاومة الفلسطينية في المرحلة الأولى. لكن شهر العسل مع دمشق لم يدُم. اندلعت اشتباكات مسلّحة بقيادة بشير الجميّل مع السوريين، فتمّ تغيير القوة الخارجيّة. استُبدلت دمشق باسرائيل والتي سبق واحتلَّت الجنوب اللبناني عام 1978 لدحر مسلّحي المقاومة الفلسطينية.

لم يعد خافياً أنّ التحالف الوثيق بين الجميّل وإسرائيل لم يكن فقط محصوراً لدحر المقاومة الفلسطيينة وزعزعة قوّتها وتجريدها من سلاحها وإستعادة سلطة الدولة... بل أيضاً للوصول إلى رئاسة الجمهورية وهذا ما حدث إلى أن تم اغتياله. ((iii قبل تسلّم الياس الهراوي رئاسة الجمهورية وأثناء ترؤّس ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية (وللتذكير لو عمل عون على إجراء إنتخابات الرئاسة لما كان هناك اتفاق الطائف ولما سقط مئات الضحايا). استعان عون بقوى خارجية: دمشق، بغداد وهناك تقارير صحافية تشير أيضاً إلى استعانته باسرائيل في زمن اسحق رابين الذي أرسل إليه مندوبه واجتمع مع عون في ثكنة الفياضية. في عهد الياس الهراوي وصولاً إلى عهد إميل لحود أضحت دمشق هي القوة الخارجية حتى عام 2005 (اغتيال رفيق الحريري). أثناء وصايتها على مجرى الأمور، سُجِّل انكفاء المسيحيين من المشهد السياسي وهذا برأيي كان خطأ جسيم لا مبرِّر له. (IV) أطبقت طهران والتي بدأ تدخلها في لبنان منذ عام 1983 )تفجير مقرّي الماريز والقوات الفرنسية... ومبنى السفارة الأميركية في عين المريسة( على مجريات الأمور وأضحت هذه المرَّة القوة الخارجيَّة. حلَّ الشيعة مكان السنّة والموارنة. المُلفت هنا عكس التجارب السابقة أن الرابط (LINK) مع القوة الخارجية طهران هو رابط ديني عبر نظريَّة "ولاية الفقيه"، والانصياع إلى أوامر المرشد في طهران الى حين ظهور المهدي المُنتظَر. لا يُشكِّل "حزب الله" فقط الذراع العسكري لطهران بل بالإمكان تصنيفه كجيش إيراني بكل ما للكلمة من معنى، يقوم مقام الجيش الإيراني نفسه (كما هو الحال في سوريا) وإلّا كيف نفسر الكمية الهائلة من العتاد العسكري للحزب إضافة إلى العديد... الذي يُقارب ال 40 ألفاً؟! وللتذكير فقط، ففي عام 1982 وباختصار ومنعاً للإطالة، فقد أطلق الخميني اثناء الحرب مع العراق شعاره "طريق القدس تمرُّ عبر كربلاء" ومع أنه لم يصل إلى كربلاء فارتأى إلى تطبيق هذا الشعار عبر زعزعة أربعة مجتمعات عربية وكأن طريق القدس يجب أن تمر بالعواصم الأربع أو بإحداها. وهكذا أضحى نعي كل مسلَّح - خاصة في المعارك الأخيرة التي شهدها لبنان- يُقتَل يتمّ تشييعه بالقول "ارتقى على طريق القدس" والطريق إلى القدس لم تمنع الخميني من شراء أسلحة من الشيطان الأكبر (أميركا) وأيضاً اسرائيل حسب ما تسرَّب من فضحية ايران كونترا 1986. يذكر وزير الخارجية البريطانية الأسبق جاك سترو أن قيمة الصادرات العسكرية الإسرائيلية لنظام الخميني بلغت مليار دولار (جاك سترو-"the English jobs 2018" ( وفي أطروحته الجامعية للحصول على شهادة الدكتوراه (جامعة بيل عام 2009 والذي عاد ونشرها ككتاب يعرض الباحث "TRAITA PARSI" الاتفاقات السريّة التي جرت بين اسرائيل وإيران وأميركا ويشير أيضاً على أكثر من مؤشر للتعاون الإسرائيلي الإيراني زمن الخميني، فعلى سبيل المثال تم السماح بهجرة خمسين ألف يهودي إيراني زمن الخميني إلى إسرائيل.

إنّ عدم تبنّي طهران والحزب لمطالب العدو الإسرائيلي في البداية والقاضية بانسحاب مقاتلي "حزب الله" بعمق 8 كيلومتر من الحدود بناء على اقتراحات هوكستاين وباريس إضافة إلى تمسكه بحرب الإسناد نتج عن ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه لبنان والحزب!! كان من المُنتظَر من طهران أن تشنّ حرباً على العدو الإسرائيلي (من خلال "حزب الله" ذراعها العسكري) في اليوم الثاني لطوفان الأقصى 8 اكتوبر. ولو فعلت ذلك لقسمت ظهر العدو الاسرائيلي الذي كان عليه أن يحارب على جبهتين. لكن طهران تبنَّت ما سُمِّيَ بحرب الإسناد (خلال تفاوضها مع واشنطن) والتي أدّت إلى الدمار الذي وصلنا إليه في لبنان، لانها رغبت آنذاك في "زكزة" اسرائيل وليس إلى "زعزعتها"!

الخسائر على مختلف أشكالها أصابت اللبنانيين، كلّ اللبنانيين! ومن الخطأ الظن أن التذمُّر من تداعيات حرب الإسناد والهجوم العسكري الإسرائيلي وما خلّفه من خسائر جسيمة لم يشمل أفراد الطائفة الشيعية الكريمة لكن التعبير عن ذلك يبدو أنه خاضع لمبدأ الترغيب والترهيب!!

هدأت المدافع لكن خوفي أنها هدأت ولم تسكت! وأميل إلى الاعتقاد أنها لن تسكت نهائيّاً إلا حين تتوقّف طهران عن التدخل في شؤون الدول الأخرى وأن تعمل بالمشاركة مع الدول المجاورة على مشروع تنموي نهضوي يساهم في إيجاد العيش الرغيد للشعوب المعنيّة. لقد زعزعت طهران وخلخلت اربع مجتمعات عربية ابتداء من لبنان وانتهاء باليمن مروراً بالعراق وسوريا... انطلاقاً مع الأسف من منطلق ديني - ولاية الفقيه- الذي كان ولا يزال مسار الجدل بين علماء الطائفية الشيعية الكريمة. الثابت أن طهران تعتبر "حزب الله" الذراع العسكري لها (كما هو حال الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن) خدمةً لمصالحها وتعزيزاً لدورها الإقليمي مسنتدة مع الأسف على الشقاق المذهبي. ألم يصرّح خامئني أن الصراع هو الصراع بين الحسينية واليزيدية؟! هل يُعقَل ونحن في القرن الواحد والعشرين أن نرجع 1400 سنة إلى الوراء؟! واذا كان الأمر كذلك هل يظن خامئني أن قتلى غزة والذين تعدُّوا ال 40.000 هم هندوس ام بوذيون؟!!

الانتفاضات التي شهدتها دول أوروبا الشرقية عام 1989 لم تُثمِر إلا حين شهِد المركز (موسكو) تغييراً قاده غورباتشوف أو ما عُرف بـ"بيريسترويكا" ويقيني أن هذا ينطبق على طهران والذي إن لم تشهد تغييراً، أتمنى من صميم القلب أن يكون سلميّاً، وأن تسعى لمشروع نهضويّ إنمائي، مع الدول المجاورة... خدمةً لشعبها المُرهَق ورأفةً بشعوب المنطقة. آنذاك يمكننا الإعتقاد أن المدافع ستسكت نهائيّاً.

في ضوء ما سبق من تجارب مؤلمة وموجعة، اطرح السؤال التالي: انا العلماني النشأ والنشأة المؤمن بلبنان الواحد الموحّد، بلبنان الرائد، المتعولم قبل العولمة، لبنان الرسالة، أليس مُوجعاً ومؤلماً أن يتم السعي إلى الغاء ثنائية السلطة عام 1982 وعام 2024 عبر العدو الاسرائيلي؟! متى يا تُرى نضع حدّاً لذلك السلوك البشع أعني "انجذاب" طائفة من الطوائف بين فترة وأخرى إلى قوة خارجية تستعين بها لتحقيق ما تصبو إليه!؟

بعد الخسائر العسكرية الجسيمة التي لحقت ب"حزب الله"، مقتل 3000 مُسلّح، خسارة نصف صواريخه ومؤونته من الأسلحة (بعث قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامة بتهنئة إلى الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بمناسبة "الانتصار الكبير" الذي حققه لبنان على اسرائيل!) والدمار الذي لحق بالبلاد من عمران وبشر إضافةً إلى آلاف الجرحى، كان من المؤمَّل أن نسمع ولو بشكل خافت نقداً ذاتيّاً يضع على الأقل الأمور في نصابها، ولكن ذلك مع الأسف لم يحصل بل سمعنا ابتهاجاً بالنصر والانتصار! الأمر الذي ذكّرني بعنوان مقال للراحل مُنح الصلح كتبه بعد هزيمة الهزائم، عام 1967: "أمّة مهزومة... وقادة منتصرون!!" بِئس هذا الزمن.. زمن الجياد الهرمة!!