لو كان لديك جهازان لقياس السكّر لربما وجدت أنهما يعطيانك قراءتين مختلفتين لنسبة السكّر في دمك، فما بالك بقراءة الأحداث السياسية، والتي قد يكون لها أكثر من قراءة تعتمد على خلفية القارئ وأيضاً على أهوائه وانتماءاته. من هنا صعوبة قراءة المشهد السوري، والذي في عشرة أيام عاصفة انقلب من مكان إلى مكان. ربما لا يختلف كثيرون على مدى العسف الذي وقع على السوريين، وما تبدّى مما شوهد في السجون وسمع من قصص للناجين، ما تشيب له الولدان. كانت مرحلة قهر وإذلال لا مثيل لها في التاريخ العربي الحديث، ولا يمكن تبريرها بأي شعار أو أسباب. لقد كان قمعاً منظّماً وممنهجاً في كسر المواطن وإذلاله. الإشكال الذي يواجه أي مراقب هو ماذا بعد تلك الحقبة المظلمة؟ الجميع ينظر ويراقب، ولكن كل ذلك التفاؤل هو "تفاؤل بحذر" والرغبة في تخطّي المرحلة إلى مرحلة جديدة فيها الحدّ الأدنى على الأقل من ضمان حقوق الإنسان والحرّيات العامة وسيادة القانون النابع من الناس. إنها مرحلة انتقال صعبة بل وخطيرة، يحبس كثيرون أنفاسهم من أجل انتظار ما يسفر عنه الوضع الآتي في سوريا. تجربة "الإسلام الحركي" في المنطقة هي باختصار تجربة فاشلة، تورث الدم والخراب وضعف الأوطان. لقد مرّ العالم العربي بمجموعة من تلك التجارب القاسية، والتي ورثت حتى اليوم صراعات لم تخمد. في السودان وبعد سنوات طويلة من حكم "الإسلام الحركي" انتهت بحرب أهلية لا يعرف أحد متى تنتهي وكيف سيكون السودان بعدها إن بقي في السودان نبض! وفي مصر رغم الفترة القصيرة، إلّا أن "الإسلام الحركي" ظهر فشله في إدارة الدولة، وعانت مصر لفترة من نتائج تلك الفترة القصيرة، بل واستمر البعض في بيع الأوهام من بقايا الإسلام الحركي. أما في تونس فقد كان الفشل واضحاً جلياً، دخلت بعده تونس في متاهات سياسية واقتصادية ضخمة. تلك أمثلة من أمثلة أخرى حولنا تقول لنا إن فكرة الخلط بين السياسة ومعتقدات الناس الدينية، هي فكرة خطرة، فالمجتمعات تُدار اليوم بالسوسيولوجيا (أي معرفة التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية) وليس بالأيديولوجيا مهما لبست من شعارات، لأن تلك الأيديولوجيات تخضع لتفاسير كثيرة واجتهادات من أزمان ماضية، وبعضها متناقض في كيفية إدارة المجتمع، وإن كانت تبدو برّاقة للبعض. حتى الساعة تبدو إشارات "غير مريحة" آتية من دمشق، تختلط بإشارات مطمئنة نوعاً ما. ومن المبكر تقدير موقف نهائي لما يحدث في سوريا، إلّا أن ما عانى منه السوريون من نظام قمعي وشمولي لن يرتضي من جديد الدخول في تجربة مشابهة في العمق، وقد تكون مختلفة في العنوان، لذلك فإن المصارحة مع أهل السلطة الجديدة واجبة، فالعالم لن يقبل بحكم متشدّد وذي أجندة إقصائية وشعارات برّاقة وعدم كفاءة إدارية على الأرض. قد يرى البعض أن الوقت ليس وقت الحكم النهائي على ما يحدث، وقد يكون ذلك صحيحاً، إلّا أن رفع علامات الحذر وتوخّي طريق السلامة هو الأفضل منذ الساعة، لأن المهمّة كبيرة وخطيرة، وسوريا بلد في قلب الجغرافيا العربية والشرق أوسطية. عمود خروجه من الأزمة الطاحنة هو ائتلاف واسع من السوريين على قاعدة دستور حديث، وخطط اقتصادية متّسقة مع العصر. إنه طريق صعب، وقد خرجت التجربة العربية في القريب بأن ليس كل ما جاء بعد الأسوأ يكون بالضرورة أفضل، فقد تحبس الأفكار الأوطان، بدلاً من جعل الأوطان منبعاً للأفكار. إن تفوقت في العهد الجديد فكرة الأيديولوجيا الاقتصادية والسياسية على العقلانية الاقتصادية، والسياسية، وعدم فهم المتغيرات كما هي، فإن النظام الجديد سوف يصطدم في وقت ما بالناس، وبالتالي يعني أن ما تمّ من تضحيات لم تغير إلّا إيديولوجيا شمولية بأخرى أيضاً صلبة، وغير قابلة للتطبيق.
- آخر تحديث :
التعليقات