تنبع الرغبة في الانتماء لوطن حر مستقل من عدة دوافع نفسية واجتماعية وثقافية متجذرة، ويوفر شعورًا بالانتماء والهوية والأمان، لذا تناضل الشعوب لكي تحصل على استقلالها، وهذا ما يحاوله الأكراد وأقليات الباسك والكتالان في اسبانيا، والاسكتلنديين والايرلنديين، في بريطانيا، وهذا ما نجح هرتزل، في مؤتمر بازل الأول، عام 1897، في إقناع الحضور بضرورة إيجاد وطن قومي لليهود، وهذا ما يسعى له الفلسطينيون، ولا معنى بالتالي لاستنكار أو الاستغراب لقيام جماعة «عقائدية دينية مسلحة» بحركتهم أو جريمتهم، أو انتفاضتهم، سمها ما شئت، في 7 أكتوبر 2023، والهجوم على المحتل الإسرائيلي، وقتل أكثر من 1200 منهم، وأسر قرابة 250، لتنتهي تلك المغامرة بخراب غزة، وتوقف الحياة فيها كليا، وفقد أكثر من 40 ألف فلسطيني لحياتهم، وجرح اضعافهم، وتشرد أكثر من مليوني غزاوي!

ما الذي دفع هؤلاء المغامرون لتلك المحاولة شبه اليائسة؟ الجواب ينسحب ويشمل كل المغامرات المماثلة لها، في حركات التحرر عبر التاريخ. ولا علاقة للأمر بما كانوا فيه من رغد العيش قبل المغامرة، وما أصبحوا عليه بعدها، فقرار المقاومة ليس جماعيا في الغالب، بل تقوم به فئة، وتتبعها البقية إن نجحت أو تتركها إن فشلت. فما الذي يدفع شعوب مرفهة مثل الباسكيين أو الكتالونيين والاسكتلنديين والايرلنديين، وغيرهم لاستمرار مطالبتهم بدولة مستقلة؟ أليست هي الرغبة الدفينة في رفض حكم الآخر، والحرص على الهوية الثقافية والتاريخية، وحق التحدث باللغة التي يريدونها، وأن تكون لهم تقاليدهم وتاريخهم وقيمهم، بدلا من العيش فيما يشبه الذل تحت حكم «الآخر»؟ وهل كنا مثلا سنقبل بحكم صدام، حتى لو ضمنت لنا كل دول العالم، أن معيشتنا ستكون أكثر رفاهية؟ فلو لم تكن الرغبة لدى الأمم؛ في الانتماء لوطن حر، بتلك القوة، لما تزايدت أعداد الدول المستقلة كل عام.

لقد انحسر الاهتمام بما يحدث في غزة، بعد أن انهزمت حماس بشكل مرعب، في صراعها مع الصهيونية، ولا يعني ذلك هزيمة القضية ولا ضياع الحق الفلسطيني، بل يجب النظر لما قامت به من منظور الكفاح، العسكري والسلمي، المشروع بغية عودة الحق لأهله، أقول ذلك، من منطلق المنطق، وليس تأييدا لحركة أيديولوجية دينية سياسية متخلفة.

لقد أيدت شخصيات يهودية وسياسية وثقافية لا تحصى حق الفلسطينيين في الكفاح، فكيف نستنكره عليهم، فقد سبق أن صرح «إيهود باراك»، أحد زعماء الصهيونية، ورئيس الوزراء (1999 - 2001) بأنه لو كان فلسطينيا، لما تردد في أن يكون عضوا في منظمة إرهابية! وشاركه «آمي أيالون»، رئيس جهاز الاستخبارات الاسرائيلي، في نفس القول! ويقول «هوشي منه» بطل تحرير فيتنام: للمرة الأولى في التاريخ تخرج دولة صغيرة منتصرة في الصراع مع دولة استعمارية كبيرة!

لقد سقط في حرب تحرير فيتنام من الفرنسيين مئات آلاف الضحايا من الطرفين، وعندما حل الأمريكيون، كمحتلين، محل الفرنسيين، استمر النضال الفيتنامي لـ 21 عاما، سقط من الطرفين خلالها ما يقارب المليون وأضعافهم من الجرحى. ولو توقف «هوشي منه» عند أرقام الضحايا، وقارن قوته، وإمكانياته، بقوة أمريكا وإمكانياتها، لتغير مسار النضال في العالم، إلا أنه امتلك العزم وقوة الشكيمة، والإصرار على نيل الحرية لوطنه، فلم يقف عند رقم أو خبر، بل استمر في الكفاح، مؤمنا بأن لا معنى لحياة بلا حرية ولا كرامة ولا إنسانية.

لقد عانت حركة التحرير الفلسطينية من الخيانة والفساد، لكن كل ذلك لا يعني أن على أصحاب القضية نسيانها، فهذا كان الحال غالبية حركات التحرر، فالنصر سيأتي عاجلا أم آجلا، طالما وراءه من على استعداد للنضال والتضحية كما حصل في حالتي غاندي ومانديلا.

الخلاصة، ليس لأحد الحق في فرض الطريق أمام الفلسطينيين، أمامهم أحد ثلاثة مسارات؛ إما المقاومة المسلحة، أو المقاومة السلبية، أو الاستسلام للأمر الواقع، وقبول الشروط الإسرائيلية! وهذا لا يمكن أن يتحدد إلا من خلال استفتاء عام، بإشراف دولي.


أحمد الصراف