سقط نظام بشار الأسد غير مأسوف عليه، لكن سوريا لا تزال تحاول لملمة أشلائها. جروحها عميقة. تبحث عن "بوابة الخروج" من الدمار إلى الإعمار، وما زال السباق محموماً على قرارها تحت أعاصير النار المشتعلة. ظلت اللعبة الكبرى بسوريا دون قواعد، طوال 13 عاماً، ينخرط فيها لاعبون إقليميون ودوليون من الوزن الثقيل، وما زالوا يمارسون الألاعيب. زحام في بلد محدود المساحة، كاد يفضي، ذات يوم، إلى حرب إقليمية أو عالمية. ابتلعت النيران ملايين السوريين وأعادت إنتاجهم قتلى أو معذبين في غياهب الأرض. كان عزاؤهم الوحيد أن "الصباح لا يولد إّلا من قلب الظلام"! فى 15 آذار (مارس) 2011، خرجت جماهير إلى شوارع سوريا، لكنها سرعان ما أصبحت مسرحاً لحرب أهلية– عالمية. تفجرت أنهار الدماء، وتناثرت آلاف الجثث. تدفق الملايين فى مواكب الهجرة والمذلة، تهاوى الاقتصاد، تكشفت أزمة هوية وولاءات عابرة للحدود والأوطان. على امتداد سنوات، تعددت المبادرات بحثاً عن تسوية للأزمة، وأخفقت في الوصول إلى حل: جنيف 1 و2 و3، والأستانة، وسوتشي. ظلت التحولات في مواقف أطراف الأزمة أكبر مسببات الصراع، خاصة مع تضارب رؤاها حول التسوية نفسها. كثرة الطهاة أفسدت الطبخة السورية. كلما اقتربت من لحظة النضج والحل، تدخل أحد الطهاة ليقلب المائدة على الباقين. مبارزة طاحنة بين لاعبين دوليين وإقليميين ومحليين، يصعب أن تفرز حلاً إلّا بالتوافق بين المتصارعين. إطفاء جذوة الصراع يظلّ مرهوناً بإنضاج التسوية، وفقاً لما تعكسه مصالح القوى الكبرى. اليوم معادلات جديدة تتشكل على الأراضي السورية، لكنّ السلام الحقيقي يبدو بعيداً، وهو مرهون بصياغة أوضاع ترضي المتنافسين. الأمر ليس يسيراً. من المبكر الحكم على ما يجري. الخلاص من الاستبداد نصر مبين، بيد أنّ الأهم هو بناء دولة مدنية ديموقراطية استيعابية لا إقصائية، من ثمّ تحمل الفترة الراهنة مخاطر جمّة، مفتوحة على "كلّ الاحتمالات". سوريا التي نعرفها لا وجود لها. بناء جديد يُخلق في هذا البلد، يشارك كثيرون في نحت ملامحه، بعضهم بحسن نية وبعضهم بأسوأ نية. الخطر الحقيقي أن يصرّ كلّ طرف من الفاعلين على الإمساك بحصّة وازنة في سورية الجديدة، في ظلّ تباين الأجندات والأدوار بينهم، لدرجة أن دولاً بالجوار السوري ترى أن الحفاظ على وحدة البلاد مسألة فيها نظر، وتحتفظ بتذكرة دخول للبازار العالمي المفتوح حول سوريا ما بعد الحرب. على عكس معظم التوقعات، يقع مسار الحل السياسي في دمشق، أولاً في يد الولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا وفرنسا وليس بعيداً عنها إسرائيل وروسيا، اعتماداً على استراتيجية أعلنت عنها واشنطن قبل سنوات، للحل في سوريا، ودعمتها بما سمته "اللاورقة"، قوامها فرض حل يتأسس على تغيير النظام، وصوغ دستور يقلّص صلاحيات الرئيس، ويقيم نظاماً برلمانياً وإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية على أسس جديدة. استراتيجية تراعي بالطبع مصالح أميركا وحلفائها بالمنطقة، وليس مصلحة السوريين بالدرجة الأولى، وإن حققت بعض أحلامهم في نظام حكم ديموقراطي، وهو بالمناسبة ليس قريباً -أو مستحيلاً- رغم التصريحات المهادنة من جانب قوى المعارضة التي باتت في السلطة، فما زال الوقت مبكراً لاختبار النوايا والتصريحات. السؤال الأهم وسط الغبار الكثيف وعدم اليقين في المشهد "أين العرب ممّا يجري؟ّ!" يتفاوت حضور وقدرة الأطراف العربية على التأثير في المشهد السوري، بفصائله وأطرافه الإقليمية والدولية. ربّما تحوز دول الخليج كالسعودية وقطر والإمارات أوراقاً أقوى لممارسة أدوار مؤثرة هناك، ثمّ تأتي الأردن والعراق ومصر. حضور الدور العربي بالغ الأهمية في هذه المرحلة، لكنّ المشكلة في اختلاف رؤى العواصم العربية تجاه مكوّنات وأبعاد المشهد السوري، ما يضعف فعالية التأثير العربي. إن العواصم العربية مدعوة إلى مغادرة التردد، بمعنى الانغماس أكثر فى البحث عن "حل سياسي"، يكفل مصالح السوريين والأمن القومي العربي، فالتطورات الأخيرة لا تسمح بترف التعامي عما يحصل. من البدهي أن الصراع أو الاضطراب في سوريا لن يدوم إلى الأبد، لكن المقلق حقاً أن السباق الدائر على كسب مواقع وغنائم هنا وهناك، يهدد بتفتيت البلاد إلى "مناطق نفوذ" بشكل أو بآخر. في الوقت نفسه يتوارى عن الأنظار "احتراب من نوع مغاير"، للفوز بنصيب من "كعكة إعادة الإعمار". بعض التقارير قدّر تكلفتها المبدئية بنحو 400 مليار دولار. كعكة يسيل لها لعاب المتنافسين. معركة في الظلّ لا يمكن الاستهانة بها، لأنّها ستكون حاسمة في صياغة شكل "الدولة السورية الجديدة"! يدرك الجميع أنّ ما يدور في سوريا، تتجاوز مجرياته ونتائجه المسرح الداخلى إلى موازين القوى ومعادلاتها فى المحيط الإقليمي، وأرباح وخسائر كلّ الأطراف، ويمسّ أيضاً مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي. وبعيداً عن التنبّؤ أو"ضرب الرمل" هناك خشية من أن تظلّ النار الأداة الوحيدة للعب والجدّ، في بلد استنفد قدرته على الاحتمال، وأكلت النيران معظم أرصدته، من الحجر والبشر!