محمد الرميحي

تجربتي مع معظم المعلقين العسكريين العرب تجربة سلبية، حملتها من أيام غزو الكويت، كنا تحت الاحتلال، عدد من المحللين العسكرين العرب بدأوا يشيعون الويل والثبور لأي قوات دولية تساعد في تحرير الكويت، في النهاية تبين أن كل تحليلاتهم هي أهواء لا تقوم على فهم صحيح للواقع، ولا على دراية بالفن العسكري أو العلاقات الدولية. في حرب غزة بدأ بعض المحللين العسكريين العرب يتحدثون عما سمّي «المسافة صفر»، ورسم بعضهم الانتصار وكأنه واقع مشاهد، وجاءت النتيجة كما توقعها أي عاقل «صفراً مربعاً» كما يقال.

هدمت غزة، وتشتت شعبها، والحديث اليوم يتصاعد - مع الأسف - عن نقل أهل غزة إلى أماكن أخرى. هذه النتائج كلها جاءت بسبب حمق القيادات، فالقيادة الحمقاء عمياء. هناك فرق هائل بين المقاومة والعبثية، المقاومة لها قواعد وأسس صارمة في التفكير والتخطيط، ولها أيضاً ظروفها المعروفة، وتحالفاتها الثابتة. العبثية هي الضيق بما هو قائم، والعمى عن الفرص أو الحسابات الدقيقة، والقول «عليّ وعلى أعدائي»! فإن لم أكن في أمان أجعل الجميع غير آمن، وهو تصور خطأ، بل ومدمر.

هذا ما فعلته حماس بالضبط، أو القيادة التي اتخذت قرار الهجوم يوم 7 أكتوبر بحمق، ودون دارسة للنتائج، وتحت انطباع خطأ هو احتمال مساندة ما يسمى محور المقاومة الصوتي وليس الحقيقي، تم ما تم في ذلك اليوم، وفتحت بعده أبواب جهنم على أهل غزة، بل والفلسطينيين جميعاً، والقضية برمتها. في السياسة النتائج هي الأهم، وليس النوايا أو النظريات.

اليوم غزة صحراء، والحرب توقفت مؤقتاً، ومع ذلك تستفز «حماس» أو «الجهاد» العالم بتصرفات حمقاء وطفولية معاً، فمنظر الإحاطة بالأسرى الإسرائيليين وهم في طريقهم إلى الإفراج بعدد كبير من المسلحين الملثمين، واستدعاء جمهور كبير بهواتفهم النقالة وهم يصورون المحتجزين وكأنهم في سيرك، هذا المنظر الذي تكرر هو غير إنساني، وغير سياسي، واستعداء للرأي العام العالمي، وأيضاً خدمة كبرى لليمين الإسرائيلي، لتسهيل الدعوة لإعادة الحرب من جديد وإبادة من تبقى! كيف نفسر مثل تلك التصرفات والأعمال سوى أنها صبيانية، فإن كان المراد بها إعلان النصر فهو نصر غبي، وإن أريد بها الإعلان عن أن المحاربين موجودون فهو استدعاء لحرب جديدة، بمعنى إفناء من بقي من أهل غزة.

ما حدث ما بعد 7 أكتوبر كله وليس بعضه حسابات خطأ، كانت قد بنيت على أجندة خارجية من دولة إقليمية، ولما شعرت تلك الدولة بهول الأمر تراجعت كلياً، بل تبرأت من معرفة ما حدث، ولماذا حدث. قيادة «حماس» في أي مجتمع يحترم نفسه كان يجب أن تقدم للمساءلة، لأنها لم تفرط في أرواح مئات الآلاف، وهدم معظم مساكن غزة، ودفع الشعب الغزي للجوع والعوز فقط، بل وغامرت بكل القضية الفلسطينية، كما لم يغامر بها أي فصيل من قبل، كما أظهرت النتائج التي أمامنا.

علة القضية الفلسطينية باطنية، وأساسها هو تجاهل أو عدم نقد تصرف القيادات، وهو نقد مستحق بل واجب، ولكنه غير ممكن، لأنها قيادات دائمة، وشبه جاهلة، وعديمة القدرة على القراءة الفطنة للمتغيرات الإقليمية والدولية، تنحو إلى المغامرة، وفي نفس الوقت فاسدة إلى العظم، بمثل تلك القيادات لا مجال لتحقيق أهداف إيجابية للقضية. كل المنطقة الآن منشغلة بالنتائج السلبية لتلك المغامرة، ومعظم دول الإقليم متوجسة على أمنها من ارتدادات 7 أكتوبر. تبين للجهلاء الذين دأبوا طول الوقت يصفقون من أماكنهم الآمنة بأن النصر قريب، وأن نهاية العدو قاب قوسين أو أدنى، ظهر لهم أن النتيجة ليست من المسافة «صفر»، ولكنها «صفر كامل»، كما عقولهم.