الهاشمي نويرة

كشف البيت الأبيض الأمريكي عن وثيقة خطيرة للغاية تحدد نظرة أمريكا للعالم والأولويات الاستراتيجية لها في مختلف مناحي عالم عادت فيه النزاعات ومنطق القوة للتحكم في العلاقات بين الدول. وبحسب الوثيقة جاءت الأولويات الأمريكية لتعلن أن المجال الحيوي الأساس للولايات المتحدة هو الفضاء الجغرافي لقارة أمريكا شمالاً وجنوباً وإن أبقت على اهتمامها بمناطق أخرى عدة في العالم، وذلك دون المساس بمسلمة رئيسية وهي أن المصالح الأمريكية هي في المقام الأول وهي المحدد الأساسي في سياسات البيت الأبيض الأمريكي، وهو ما يدفع باتجاه الاعتراف بعالم متعدد الأطراف.

وبدءاً لا بد من الإقرار أولاً بأن هذا التوجه الأمريكي ليس مرتبطاً بوصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، إذ ظهرت ملامحه منذ ولاية الرئيسين الأمريكيين السابقين، جو بايدن، وباراك أوباما، حيث بدأت اهتمامات الولايات المتحدة تتجه بعيداً عن تحالفاتها التقليدية التي محورها العلاقة مع الدول الأوروبية والتي كانت تحركها القيم الحضارية والديمقراطية المشتركة بين الطرفين. وما كان يميز بين ترامب والرؤساء السابقين فقط هو أسلوبه المباشر والحاد في فرض المصلحة الأمريكية على باقي حلفائه ودول العالم الأخرى.

وثانياً، لا بد كذلك من الاعتراف بأن الكتلة الغربية الليبرالية لم تعد بذلك التجانس والانسجام الذي طبع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي أدى إلى سقوط جدار برلين ومنظومة الاتحاد السوفييتي السابق والسيادة المطلقة للمنظومة الليبرالية، وهو ما أوصل البشرية إلى مناخ علاقات دولية معولمة تضع الأوطان في مرتبة ثانية.

وجاءت وثيقة الأمن الاستراتيجي الأمريكية لتعلن نهاية هذه المرحلة في العلاقات الدولية وبداية مرحلة أخرى حجر الزاوية فيها سيادة الأوطان وموازين القوى على الأرض، ما يعني في المنظور الأمريكي الاستراتيجي أن الدور المحوري الأوروبي في العلاقات الدولية ولى وانقضى، وأن عامل الهجرة أربك التطور الطبيعي لدول أوروبا، ما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والتفسخ الحضاري الأوروبي والانهيار المحتوم، ما يعني ويفسر الإصرار الأمريكي على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بكل الوسائل حتى وإن كانت على حساب الجانب الأوكراني، لأن الأساس في التقدير الأمريكي هو إنهاء الحرب والاشتغال على مسائل أكثر جدوى وأهمية.

وتعتبر العودة إلى المصالح البينية والتجارية بين الدول والأمم عصب العلاقات الدولية التي تبشر بها وثيقة الأمن الاستراتيجي الأمريكي، الشيء الذي يفسر أولاً دعوة الوثيقة الدول الأوروبية وشعوبها إلى فسح المجال أمام قوى أحزاب اليمين لبناء دولها على أساس وطني وقومي وذلك لتجاوز أزماتها الاقتصادية والحضارية والقيمية، وما يفسر ثانياً اعتبار الصين مجرد منافس اقتصادي وليس عدواً استراتيجياً كما كان في السابق، رغم أن الوثيقة أبقت على استقلالية تايوان سيفاً مرفوعاً في وجه بكين.

ولأن الأساس في التصور الأمريكي هو المصلحة الاقتصادية، أولت الوثيقة الأمريكية في المقام الثالث اهتماماً لافتاً للعلاقة مع الهند بحكم الوزن الاقتصادي والديمغرافي لهذا البلد، وكذلك الأمر في علاقة بدول ومناطق مختلفة من العالم.

ويتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن مساعي ترامب من أجل فرض السلام في مناطق عدة من العالم هو لتنقية مناخ المال والأعمال والمبادلات التجارية، ما يسهل على الولايات المتحدة تحقيق مصالحها وأهدافها، ويبدو أن إدارة ترامب بصدد إعادة إحياء مبادئ ويلسون الأربعة عشر التي تقدم بها الرئيس وودرو ويلسون للكونغرس في 8 فبراير 1918 بعد الحرب الكونية الأولى من أجل إحلال السلام، رغم معارضة القوى التقليدية في أوروبا ذلك واعتبار هذه المبادئ مثالية وصعبة التحقيق.

إن صفحة الماضي الاستعماري لأوروبا والقوى الغربية لم يكن بالأمر الهين بالنسبة لهذه القوى الاستعمارية، لأن تشابك مصالحها مع مناطق نفوذها في مستعمراتها السابقة يجعل من عملية فك هذا الارتباط شبه مستحيل، وبدا عبر التاريخ الممتد منذ القرن التاسع عشر أن هذه الدول الاستعمارية انتقلت من حالة الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الاقتصادي غير المباشر ثم إلى التحكم في مصير الشعوب باسم قيم الديمقراطية والحرية، ولكن تناقض المصالح بينها وإرادة الشعوب قضت بدخول منظومة الاستعمار في شكلها الجديد مرحلة الموت السريري في انتظار تكيف جديد قد ينجح وأغلب الظن قد لا ينجح.