لم تكن خطوةُ المجلسِ الانتقالي الجنوبي في وادي حضرموت مجردَ محاولةٍ «تقدّم ميداني» كما حاولت بعضُ خطاباته تبريرَها؛ بل كانت خطوة اعتباطية خطيرة. فقد اختارت قيادةُ «الانتقالي» أن تتحرَّكَ عكسَ اتجاه اللحظة الإقليمية، وأن تتجاهلَ الطبيعة الحساسة لحضرموت، ساعية إلى فرض واقع بالقوة على محافظة لم تكن يوماً جزءاً من مشروع أحادي، ولا تقبل بطبيعتها أن تُختزل داخل فصيل واحد.

في مشهد أعاد إلى الأذهان لحظة قفز الحوثيين على الدولة في صنعاء عام 2014، وظّف «الانتقالي» خطاباً تعبوياً وحشداً مناطقياً لفرض أمر واقع على وادٍ لم يكن يوماً ساحة رخوة أو فراغاً سياسياً. وبينما كان الإقليم يتجه نحو تثبيت الأمن وإعادة هندسة العلاقة بين القوى المحلية والفاعلين الكبار، اختار «الانتقالي» السير في الاتجاه المعاكس: خطوة مرتجلة، ومخالفة لمنطق الدولة، وتفتح الباب أمام أخطر سيناريو في جنوب اليمن، وهو إعادة إنتاج نموذج الميليشيا التي تبتلع الجغرافيا ثم تختطف القرار المحلي.

القراءة السطحية للمشهد تفترض أن حضرموت «مساحة يمكن السيطرة عليها إذا توفّر السلاح»، لكن هذه قراءة تختزل الواقع اختزالاً مخلاً، فحضرموت ليست مجرد وادٍ أو هضبة نفطية، بل نظام اجتماعي-قبلي عريق، يحمل حساسية تاريخية عالية تجاه أي سلطة قسرية آتية من الخارج، شمالية كانت أو جنوبية. ولهذا السبب تحديداً فشلت، عبر عقود، كل محاولات الإخضاع التي اعتمدت على القوة لا على الشرعية والقبول الاجتماعي.

ما تجاهله «الانتقالي» أن حضرموت، ولا سيما الوادي، ليست جزءاً من «المركزية الجنوبية» التي يسعى إلى فرضها؛ فهي كيان اجتماعي وسياسي مستقل في المزاج والهوية والتطلعات. وكل محاولة لجرّها إلى مشروع أحادي تتحول تلقائياً إلى اشتباك مع الذاكرة الحضرمية التي خبرت الهيمنة القادمة من عدن وصنعاء على السواء، وتعلم بالتجربة أن السلطة المنتزعة بالقوة لا تصنع استقراراً ولا تبني دولة.

بهذا المعنى، وقع «الانتقالي» في الخطأ ذاته الذي ارتكبه الحوثي حين ظن أن القوة وحدها قادرة على صناعة شرعية. غير أن حضرموت تمتلك اليوم من تماسك البنية القبلية، ومن الارتباط الاستراتيجي بالمملكة العربية السعودية، ما يجعل استنساخ النموذج الشمالي أمراً شبه مستحيل. فالوادي ليس فراغاً، بل مجتمع كامل الأركان، يعرف تركيبته، ويحمي مصالحه، ويرفض أن يكون تابعاً لمشروع لم يشارك في صياغته.

لفهم عمق الأزمة، لا بد من التذكير بالخصوصية التاريخية لحضرموت، فمنذ ما قبل الوحدة اليمنية تميّزت المحافظة بإدارة شبه مستقلة وبيئة اجتماعية شديدة الحساسية تجاه النفوذ القادم من المراكز السياسية الكبرى. وبعد الوحدة عام 1990، ورغم الاندماج في الدولة الجديدة، حافظت حضرموت على قدر من التمايز، ولم تُحكم يوماً عبر سلطة أحادية مستقرة من عدن أو صنعاء. ومع تعمّق المركزية بعد حرب 1994، ازداد شعورها بالتهميش، خصوصاً في ظل غياب مشاريع تنموية عادلة وتمثيل سياسي متوازن.

ثم جاءت حرب 2015 لتعيد رسم المشهد جذرياً، ففي الساحل برزت قوات النخبة، وفي الوادي ظل النفوذ موزعاً بين المنطقة العسكرية الأولى والتحالف القبلي بقيادة عمرو بن حبريش، الذي مثّل، لسنوات، رمزاً للتوازن الاجتماعي لا بسبب قوته العسكرية، بل بسبب عمقه التمثيلي داخل المجتمع الحضرمي. ومع الوقت، بات الوادي أكثر مناطق الجنوب حساسية، لكونه شريان النفط، وممر التجارة، ونقطة تماسّ مباشرة مع المملكة.

في هذه اللحظة الإقليمية الدقيقة، جاء تحرك «الانتقالي» نحو سيئون والهضبة النفطية قبل القمة الخليجية بأيام قليلة، في توقيت خاطئ ورسالة خاطئة. كان يُفترض بالقوى المحلية أن تدرك أن الإقليم يعيد تعريف أولوياته الأمنية، وأن السعودية تتحرك لتثبيت توازن جديد يمنع تكرار الفشل في دول أخرى. لكن «الانتقالي» أخطأ في ما قام به في حضرموت.

مقاربة «الانتقالي» لم تكن خطأً تكتيكياً فحسب، بل سوء قراءة لبنية القوة في الإقليم ولموقع السعودية فيه. فحضرموت ليست ساحة لاختبار النفوذ، بل صمام أمان اقتصادي وأمني، ومن يمسّ استقرارها يلامس مباشرة منظومة الأمن الخليجي بأكملها.

الأخطر في هذا المسار أنه يعيد إنتاج منطق «الميليشيا الموازية للدولة»، أي بناء قوة مسلحة خارج الإطار المؤسسي ثم محاولة شرعنتها عبر السيطرة على الجغرافيا. هذا المنطق لا يهدد حضرموت وحدها، بل يفتح الجنوب على صراعات مناطقية، ويقوّض شرعية الدولة، ويخلق فراغات أمنية قابلة للاختراق من الجماعات المتطرفة، ويضعف الجبهة المناهضة للحوثي في لحظة كان يفترض أن تتجه فيها القوى اليمنية نحو توحيد الصف.

في خضم هذا الاضطراب، برز الدور السعودي بوصفه عامل التوازن الوحيد الذي حال دون انزلاق حضرموت إلى حرب جنوب-جنوبية واسعة؛ فقد تعاملت المملكة مع الأزمة بمنهج مسؤول، ركّز على احتواء التصعيد، وحماية المنشآت النفطية، ومنع الانهيار الأمني، ونجحت في فرض تهدئة مبكرة وإعادة ترتيب المشهد دون الانجرار إلى دعم مشروع فصائلي، انطلاقاً من إدراكها أن استقرار حضرموت ليس تفصيلاً محلياً، بل ركيزة أساسية لأمن اليمن والمنطقة.

تكشف أزمة حضرموت درساً واضحاً: لا يمكن القفز فوق الجغرافيا ولا فوق منطق الدولة، ولا يمكن لليمن أن يُدار بفصيل واحد أو مشروع أحادي. الشرعية الحقيقية تُبنى بالتوافق، لا بالسلاح، والاستقرار لا يُصنع بالمغامرة. ومن هنا، فإن النهج السعودي القائم على دعم الدولة، ومنع منطق الميليشيات، وتثبيت التوازن، يقدّم النموذج الأكثر واقعية لأي مقاربة جادة للخروج من الأزمة اليمنية، ويمنح اليمنيين فرصة لتفادي إعادة إنتاج الكارثة التي بدأت في الشمال وكادت تُستنسخ في الجنوب.