لم يكن اعتراض الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، على صفقة ضخمة بين (نتفلكس وورانر براذرز) أمراً عاديا من الناحية الإعلامية والسياسية في الوقت نفسه، وليس الامر مجرد تصريح اعلامي اعتدناه من الرئيس الأكثر تصاريح إعلامية وجدلية سياسية، الامر اختلف هنا، حيث كان تنبيه صريح لحجم النفوذ الذي يمثله الإعلام في الولايات المتحدة، فحين يضع رئيس أمريكي قناة CNN في قلب نقاش صفقة بمليارات الدولارات، تتجاوز هنا المسألة الخلافات الإعلامية، وتتحول لمفهوم آخر للقوة والتأثير السياسي، حيث يُقاس النفوذ الإعلامي اليوم بأكثر من مجرد عدد المتابعين أو حجم الأموال المستثمرة.

فلم يركّز ترمب في هجومه الإعلامي على الصفقة من ناحية استثمارية مالية فقط وهو المستثمر ورجل الاعمال المحنك، بل سلّط الضوء على مصير CNN تحديداً، وهذا التركيز يكشف وعياً سياسياً بحقيقة قديمة: "الإعلام في أمريكا ليس وسيطاً محايداً، بل لاعب رئيسي في تشكيل الرأي العام، وصناعة المزاج الانتخابي، وإعادة تعريف القضايا الوطنية"، فالسيطرة على قناة كبرى تعني القدرة على التأثير المحلي والعالمي، وليس التحكم في الأخبار فقط، وهذا ما يجعل أي صفقة إعلامية مسألة سياسية بالدرجة الأولى!.

ولفهم هذا الاهتمام بغض النظر عن التفسيرات المتعددة التي سمعناها حول أسباب رأي ترامب، يكفي النظر إلى حجم الإعلام الأمريكي، فالسوق هناك تتجاوز قيمته السنوية أكثر من نصف تريليون دولار، وتشمل الإعلام المرئي والمسموع، المنصات الرقمية، والإعلانات التجارية والسياسية، أي ما يعادل تقريباً (2 تريليون ريال سعودي)، وهذا الرقم يوضح لماذا تتحول صفقة إعلامية واحدة إلى ملف حساس سياسياً، ولماذا تُقرأ الاستحواذات على وسائل الإعلام باعتبارها نفوذاً لا يقل وزناً عن المال أو القرار السياسي، وخير مثال صفقة منصة X (تويتر سابقاً) وتأثيراتها داخل أمريكا وعلى المستوى الدولي او بمعنى اكثر صراحة سيطرة المنصة على الرأي العالمي بالوقت الحالي.

فقناة CNN لم يتم التعامل مع بيعها بكونها مجرد قناة أخبار تقليدية، وإنما كرمز لإعلام يعرف كيف يصنع العناوين، ويؤثر في النقاش العام، ويضغط على السياسيين، لذلك لم نستغرب أن يتعامل ترامب مع مستقبلها كجزء من معركة نفوذه الاستراتيجية، لا مجرد كونها صفقة اعلامية تجارية، فالسيطرة على القناة والمنصات التابعة لها، في نظره ونظر آخرين، تعني ببساطة التحكم والتأثير بالرأي المحلي والعالمي!.

وهنا تبرز حقيقة هامة في الواقع الإعلامي الذي نعيشه خصوصا بمجتمعاتنا العربية، والنظرة الإعلامية القاصرة باعتبار ان وسائل التواصل الاجتماعي (قلّصت دور الإعلام التقليدي)، رغم ان الواقع هنا غير صحيح وأكثر تعقيداً، صحيح أن المنصات الرقمية سحبت جزءاً من الجمهور وفتحت المجال لروايات متعددة، إلا أن الإعلام المؤسسي لا يزال هو الذي يضع الإطار العام للنقاش، ويحدد ما يُعاد تدويره ويُضخّم في الفضاء الرقمي، فحالياً الإعلانات السياسية الكبرى، المناظرات الرئاسية، والملفات الحساسة تمر عبر شاشات وقنوات معروفة، لأن التأثير لا يُقاس بعدد المتابعين فقط، بل بالثقة، والتاريخ، والقدرة على الوصول إلى الجمهور في اللحظة الحاسمة.

تفاعل ترمب مع الصفقة ليس جديد على مستوى العلاقة بين الاعلام والسياسة في أمريكا، وان كان ترمب يختلف عن السياسيين الذين سبقوه بانه صريح ومباشر وأكثر جرأة إعلامية، لان الإعلام لديهم يُدار كقوة استراتيجية، يُحسب نفوذه، وتُراجع صفقاته بعين سياسية قبل أن تُقرأ بعين اقتصادية.