لم يختبر الفكر العربي المعاصر تحوّلاً أعمق وأقسى من ذلك الانتقال المتدرّج، المؤلم أحياناً، من عالم الإيديولوجيات الصلبة إلى فضاء الفكر المرن. فالإيديولوجيا، حين تشكّلت في الوعي العربي الحديث، لم تكن مجرد أفكار، بل كانت يقيناً مغلقاً، ونظاماً شاملاً لتفسير العالم، ووعداً بالخلاص، وسلاحاً في الصراع، وهويةً بديلة من هوية الدولة والمجتمع. كان ذلك نقلاً مسطرياً عن الفكر القومي الغربي. أما الفكر المرن، فهو نقيض ذلك كله: تفكير نسبي، تاريخي، قابل للمراجعة، لا يدّعي امتلاك الحقيقة، ولا يزعم احتكار المستقبل، إلا أنه لم يكن في متناول العقل العربي، لأنه همّش وشوّه. عاشت المجتمعات العربية، منذ منتصف القرن العشرين، على إيقاع الإيديولوجيا الصلبة بكل أشكالها: قومية، ويسارية، ودينية، وثورية. كانت الإيديولوجيا آنذاك تشبه "العقيدة" التي لا تقبل الشك، وتمنح أتباعها شعوراً أخلاقياً بالتفوّق، وتختصر لهم الواقع في ثنائيات حادّة: حقّ وباطل، تقدّم وتخلّف، إيمان وكفر، ثورة وخيانة. ومع هذا التصنيف الحاد، تراجعت المسافة بين الفكر والسلطة، وبين الرأي والحقيقة، وبين الوعد والواقع. فكل إيديولوجيا صلبة تدّعي أنها تحمل الحل النهائي للمجتمع، وتملك تفسير التاريخ، وتعرف طريق المستقبل. غير أن الزمن لا يرحم الأفكار المغلقة. ومع تراكم الإخفاقات، وتكرار الصدمات، وتضخّم الفجوة بين الشعارات والنتائج، بدأت الإيديولوجيا الصلبة تتآكل من الداخل. سقطت قدرتها على الإقناع، ثم سقطت قدرتها على التنظيم، ثم سقطت قدرتها على تقديم نموذج ناجح للدولة والاقتصاد والمجتمع. ومع كل إخفاق سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، كان يتسرّب الشك إلى بنيتها الفكرية، حتى وصلت في كثير من الحالات إلى مرحلة الانهيار الكامل، أو التحوّل إلى مجرد خطاب احتجاجي فاقد للبرنامج. في المقابل، لم يولد الفكر المرن دفعة واحدة، بل جاء بطيئاً، متدرجاً، متردداً أحياناً. الفكر المرن لا يعد بالخلاص، ولا يرفع شعارات كبرى، ولا يقدم وصفات جاهزة، لكنه يمتلك ميزتين أساسيتين: القدرة على التعلّم من الخطأ، والقدرة على التكيّف مع المتغيّرات. إنه فكر يعترف بنسبية الحقيقة، وبأن الواقع أعقد من أن يُختزل بنظرية واحدة، وبأن المجتمع لا يُدار باليقين المطلق بل بإدارة المصالح والتوازنات. التحوّل من الإيديولوجيا الصلبة إلى الفكر المرن ليس تحولًا معرفياً فحسب، بل هو تحوّل نفسي وثقافي عميق. فالمؤمن بالإيديولوجيا الصلبة يعيش في عالم واضح المعالم، له أعداء محددون، وأصدقاء محددون، وخط واحد مستقيم للمستقبل. أما صاحب الفكر المرن فيعيش في عالم رمادي، متحوّل، تتبدل فيه التحالفات، وتتشابك فيه المصالح، وتختلط فيه الحقائق بالتصورات. وهذا العالم الرمادي مرهق نفسياً، لأنه لا يمنح الطمأنينة التي تمنحها العقائد المغلقة، لكنه في الوقت نفسه أكثر صدقاً مع تعقيد الواقع. لقد أدّى انهيار الإيديولوجيات الصلبة إلى فراغ فكري في كثير من البيئات العربية. فبعض المجتمعات انتقل من اليقين المطلق إلى الشك المطلق، ومن التفسير الشامل إلى الفوضى المعرفية. وظهرت في هذا الفراغ أنماط جديدة من التفكير، لا تقوم على بناء تصورات كبرى للمستقبل، بل على إدارة الحاضر، وتخفيف الخسائر، وتحقيق الممكن لا المثالي. وفي هذا التحوّل يكمن جوهر الفكر المرن: الانتقال من "ما يجب أن يكون" إلى "ما يمكن أن يكون". لكن الفكر المرن، رغم واقعيته، لا يخلو من مخاطر. فهو قد يتحوّل، إذا فقد بوصلته القيمية، إلى مجرد براغماتية باردة تبرّر كل شيء باسم الضرورة والمصلحة. وقد يتحوّل، إذا غابت عنه الرؤية الطويلة المدى، إلى إدارة يومية بلا مشروع حضاري. لذلك فإن التحدي الحقيقي ليس في إسقاط الإيديولوجيا الصلبة فحسب، بل في بناء فكر مرن يمتلك في الوقت نفسه قاعدة أخلاقية، ورؤية استراتيجية، وقدرة على الموازنة بين المبادئ والمصالح. في المشهد العربي الراهن نرى بوضوح هذا الصراع بين نمطين من التفكير: نمط لا يزال أسير اليقينيات القديمة، يرى العالم كما كان قبل عقود، ويقرأ الحاضر بعين الماضي، ويطلب من المجتمع أن يدفع ثمن شعارات لم تعد صالحة لزمنه. ونمط آخر يحاول أن يتكيّف مع عالم شديد السيولة، عالم الاقتصاد المفتوح، والسياسة المتغيرة، والتكنولوجيا المتسارعة، من دون أن يمتلك دائماً أدوات فكرية مكتملة لتوجيه هذا التكيّف. إن الانتقال من الإيديولوجيا الصلبة إلى الفكر المرن ليس علامة ضعف كما يظن بعضهم، بل قد يكون في جوهره علامة نضج تاريخي. فالمجتمعات لا تدخل طور الدولة الحديثة إلا حين تكفّ عن البحث عن “العقيدة المنقذة” وتبدأ ببناء "العقل المنظّم". ولا تصنع الدول المستقرة باليقينيات المطلقة، بل بالمراجعات المستمرة، وبالاعتراف بالخطأ، وبالقدرة على تصحيح المسار. المفارقة أن الفكر المرن أكثر تواضعاً، لكنه أكثر قدرة على البقاء. أما الإيديولوجيا الصلبة فهي أكثر صخباً، لكنها أقصر عمراً. الأولى تمشي ببطء لكنها لا تسقط بسهولة، والثانية تركض بسرعة لكنها كثيراً ما تنتهي إلى الاصطدام. وهذا الفارق هو ما يجعل معركة العقل العربي المعاصر معركة زمن لا معركة شعارات، ومعركة بناء لا معركة هتاف.
- آخر تحديث :















التعليقات