إن الإعلام غير المقيّد بمعاييره ومفاهيمه وقوانينه، والذي يعتبر في بعض الدولة كسلطة رابعة، دائماً يقف ضد إرادة الشعوب في انتزاع حقوقها وحريتها واستقلالها، والحرب الإعلامية التي يقودها أصحاب الأقلام المؤثرة والمتفاعلة، لا تقلّ أهمية وخطورة عن جبهات القتال وخنادقها، فهو ينشر السموم والأمراض في عقول المجتمعات ويخرّبها، وخير مثال على هكذا نوع من الإعلام ينطبق على صحيفة النهار العراقية التابعة وفي غلاف صفحتها الأولى بإحدى أعدادها، تشبّه كوردستان بفتاة شقراء، جالسة على الأريكة، يقف وراءها مجموعة من الفحول «في إشارة إلى القضاء على القضية الكوردية»، والمقصود منهم (سوريا، العراق، تركيا، إيران، الأردن)، وهذه الصورة لا تحتاج إلى أي تفسير سوى أن مخيلة رئيس تحريرها حسن جمعة، لا تختلف بشيء عن المخيلة الداعشية، التي سبت النساء الإيزديات عام 2014، وهي صفحة عار في تاريخ الصحافة العراقية، ولا تدل إلا على انحطاطها وسقوطها الأخلاقي. 

عندما يعادي المثقف العربي استقلال كوردستان من بوابة وجود علاقات تعاون وتنسيق مع إسرائيل «لا يوجد حتى الآن أي سفارة أو قنصلية إسرائيلية في كوردستان، بينما توجد سفارات إسرائيل في مصر والأردن وموريتانيا…» لماذا ينسى هذا المثقف دولا خليجية وتعاونها مع إسرائيل؟ ثم أليس الأولى به أن يلوم بني جلدته أولاً؟
عندما يتهم المثقف العربي الشعب الكوردي بالخيانة العظمى، مستنداً بذلك لتصريحات القادة العرب والمسؤولين السياسيين في الإعلام «تأكيدات وهمية لا أساس لها» بوجود علاقات وإبرام اتفاقيات سرية وعلنية بين كوردستان وإسرائيل، عليه أن يسأل نفسه أولاً لماذا وضع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يده في يد رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو، والتقى به في أمريكا علناً، وأمام الرأي العام العربي والدولي؟ ألتحرير فلسطين أم لإقامة علاقات أخوة مصرية إسرائيلية؟ وتعقيباً على هذا الحدث التاريخي يقول الكاتب الكورد ماجد ع محمد: ”الملفت في السيسي أنه لا يتاجر بمعاداة إسرائيل علناً ويلتقي بها سراً، كما يفعل قادة الدول التي تدّعي في خطابها الرسمي معاداة إسرائيل، من خلال منافيخ إعلامها الكذوب ليل نهار“.

إن وجود السفارات الإسرائيلية في بعض الدول عربية، «الأسد لا زال طفلها المدلّل» ألا يعتبر ذلك اعترافاً رسمياً بدولة إسرائيل من قبل تلك الدول؟ ألا يدل ذلك بوجود علاقات بين إسرائيل والعرب على الصعيد الدبلوماسي والأمني والاقتصادي والتجاري والسياحي؟ وإذا كانت علاقات اسرائيل متأصّلة مع العديد من الدول العربية، وفي عدة اتجاهات ومجالات، هل من المُستهجن إقامة علاقات مع الكورد؟

لعلّ حكّام الـ 21 دولة عربية هم المسؤولون عن ضياع فلسطين، وعليه سأطرح أسئلة، وأتمنى من المثقف العربي الذي يقف في وجه طموحات الشعب الكوردي أن يجيب عليها، لربّما تفيده، هل الكورد أعطوا وعد بلفور لليهود؟ هل هم مَن رفضوا قرار التقسيم؟ هل هم مسؤولون عن نكبة حزيران وتهجير الفلسطينيين؟ هل هم مَن وقعوا اتفاقيتي كامب ديفيد وأوسلو مع الصهاينة؟ هل هم مسؤولون عن رفع العلم الإسرائيلي في دول عربية، بحجة السلام وتطبيع العلاقات؟ إن عقدة العرب هي فشلهم العملي في التوحيد ضد الأزمات التي تحدّق بهم، ولعلّ نظريه المؤامرة والممانعة هي لسان حالهم الراهن والأبدي. 

مقارنة بحرب المثقف العربي على استقلال كوردستان، أسأل سؤالاً لطالما حيّر وعقّد الملايين من الناس، لماذا لا يتّحد العرب بأسلحتهم وجيوشهم وسياسييهم، ويخطّطوا لحرب حكيمة وذكية، ويتخلّصوا من إسرائيل، ويحرّروا فلسطين؟ لماذا المثقف العربي الذي يحمل الهمّ العربي القومي على كاهله يتجاهل أمراً مهمّاً جداً، وهو هل يقبل العرب كدول بقيام دولة كوردية «الجميع يدرك أن للكورد أرض وتاريخ وحضارة وهوية»؟ أو هل ساندت دولة عربية واحدة وبشكل عملي قيام هذه الدولة؟ في الحقيقة ومن منطلق الفكر القومي العربي والفكر الإسلامي فالأمر محال، وصعب المنال. 

أعتقد أنه كلما أثارت قضية تخصّ استقلال كوردستان أثارت علاقة إسرائيل وتأييدها للشعب الكوردي، في عملية غير حقيقية ووهمية، فقط الهدف منها خلط الأوراق، وليظهر بأن الكورد هم الوحيدون على سطح هذا الكوكب تؤيدهم دولة إسرائيل، وباقي الشعوب العربية تعدّ العدّة للقضاء عليها، وتحرير فلسطين وإعادتها إلى شعبها.

على غالبية المثقفين العرب، الذين يرفضون إقامة الدولة الكوردية ويتهمونها بالعمالة لإسرائيل «حتى لو أقامت كوردستان علاقات مع إسرائيل في المستقبل، فلا يحق لأحد أن يتهمها بالخيانة ويعاديها، طالما أنها لا تريق الدماء وتعزّز السلام» أن يدركوا أن الدول العربية والإسلامية قاطبة لهم علاقات متينة مع اسرائيل، إما بسرية تامة، حفاظاً على عروشهم وكراسي حكمهم والضحك على شعوبهم بأن إسرائيل عدوتهم الأولى والأخيرة، أو بعلاقات علنية واضحة، وعلاقاتهم أقوى وأمتن من باقي الدول، بينما تشن صحفهم ومثقفوهم وكتّابهم صباح مساء هجومهم وحروبهم الكلامية والإعلامية ضد إسرائيل، فتصبح فلسطين محررة بجهاد ونضال هؤلاء القادة على لسان صحفهم ووسائل إعلامهم في غضون أيام، مثلما اليوم يتهيؤون ويتسلّحون لمحاربة كوردستان. 

لماذا هذا الهجوم على الكورد من قبل بعض الكتّاب والمثقفين العرب؟ لعلّ الإجابة ليست مبهمة ومعقّدة، فهي لا تحتاج جهوداً كبيرة لتفسيرها، فبصمة إسرائيل موجودة على كراسي غالبية أنظمة حكّام العرب، وحمايتها لعروشها، التي أثبت الربيع العربي أنها كانت ديكتاتورية ومفسدة وعنصرية، وتزوّدها بالسلاح الفتّاك وتكنولوجيا التجسّس على شعوبها، مروراً بتزويدهم بالمعلومات عن تحرّكات معارضيها من الأقليات وغير الأقليات، في الداخل والخارج، إذاً فربط إسرائيل باستقلال كوردستان واستفتاءها الأخير مسألة تتطلّب من العرب أولاً والمسلمين ثانياً والشيعة ثالثاً التمعّن بأن إسرائيل لم تسلب أرض الكورد، ولم تعلن الحروب عليهم، ولم تبيدهم بالسلاح الكيمياوي، ولم تهدّدهم بالزوال، ولم تدمّر مدنهم وقراهم، ولم تنكر لوجودهم التاريخي وهويتهم القومية، ولم تهجّرهم من بيوتهم، ولم تجعل المدارس كمخافر وفروع أمنية لقمعهم، فلماذا إذن على الكورد وحدهم محاربة إسرائيل واسترجاع فلسطين والجولان؟! 

ويبقى القول الأخير والتأكيد الموجز، أن الموضوع ليس لعلاقات كوردستان بإسرائيل، أو تأييد إسرائيل لاستقلالها، بل هي حجّة واهية للتعبير عن الحقد الأسود والكراهية العمياء والشوفينية التي لا تميز بين الأخضر واليابس، والتي تعتقد أن كل القوميات في العالم العربي هي قوميات عربية، وعلى معاديي كوردستان من الحكّام والمسؤولين والمثقفين والموظفين ورجال دين والصغار والكبار إدراك هذه الحقيقة، واستيعاب أن كوردستان ليست مع إسرائيل ضدّ فلسطين؛ وأيضاً ليست مع فلسطين ضدّ إسرائيل، ولن تعادي أحداً على حساب إقامة تحالفات جديدة أو قطع علاقات قديمة، والعمل على تهيئة الأجواء والأضواء ليعيش العرب مع الدولة الكوردية الوليدة كدولة مسالمة محبّة للتطوّر والسلام، وليس كدولة ستُزرع كبعبع ثانٍ في قلب الشرق الأوسط المتفكّك، فالبعبع هو الحقد الكامن الذي يعشعش في صدورنا، ومتى ما تخلصّنا من هذا البعبع فسنعيش معاً كدولة جارة، وباستقرار وسلام. 

كاتب وصحفي كوردي