إن التحرّكات التي يعمل عليها رئيس إقليم كوردستان مسعود بارزاني بحنكة سياسية وإصرار عنيد في العامين الأخيرين يمكن اعتبارها سبباً لإعلان الحرب على ضرورة أن ينتهي زمن مستبديّ الكورد وهدم ديكتاتورياتهم، أولئك الذين يدّعون الديمقراطية ويطبقون القمع والتمييز العنصري، يعلنون عن طابع الدولة العلمانية وهم على الأرض أكثر المتعصّبين والمتشدّدين بامتلاكهم فكراً إسلامياً تكفيرياً، وليس بمنطق تطبيق العدل والمساواة ونشر التسامح والسلام، يدّعون الإسلام وغالبية مسؤوليهم مفجورين مفجوعين بالجنس والنفوذ والمال.
لا زالت هذه الدكتاتوريات ورموزها ترى أن الاستفتاء طموح تكتيكي «استناداً إلى الضغوطات السابقة على حكومة بغداد في موضوع التمويل وكركوك والأسلحة»، وتحلم بأن يتراجع إقليم كوردستان عنه بتأجيله، أو يعود للحوار مع بغداد بأخذ ضمانات ووعود هشّة، أو يناور بغية حصوله على مكتسبات عامة أو شخصية، وكأن مسألة الاستفتاء حق فردي «الاستفتاء مطلب خاص لأبناء إقليم كوردستان وحلم قادم لبقية الأجزاء الأخرى»، خاصة وأن كل الأطراف تتوقع أن تكون نتائج الاستفتاء بأغلبية إيجابية لصالح تقرير المصير «لماذا فشلت الحكومات العربية في تشكيل إيديولوجية للشراكة الوطنية، يكون الكورد جزءاً منها في دولة مدنية ديمقراطية بدلاً من اتباع استراتيجية الأرض المحروقة؟».
أتساءل كيف يشرعن الكاتب العربي لنفسه أن يتكلم بشكل دائم عن مسألة رئاسة مسعود بارزاني وأنه فاقد الشرعية الدستورية، ويحيط به الخصوم من كل صوب وحدب، في المقابل لا يستطيع أن يتكلم عن الحكّام العرب وتشبثهم بكرسي السلطة وكل مفاصل الدولة، فغالبيتهم وصلوا لسدّة الحكم بطرق مشبوهة وغير قانونية، وحتى غير مؤهّلين لإدارة البلاد، لدرجة أنهم يأخذون ضريبة مالية حتى على كُشك صغير للفلافل حتى لو كان في أحد القرى «كُشْك: مكان صغير لبيع الصُّحُف أَو المَأْكولات، أَو لأَعمال أُخرى»، فهل يستطيع مثقف سوري وهو في بلده الحديث عن رئاسة آل الأسد واستلامهم لسدّة الحكم لا غيرهم؟ وهل المثقف الخليجي قادر على أن يكتب عن رؤساء وأمراء الخليج بأخطائهم وسلبياتهم؟
فلو فكّرت هذه الديكتاتوريات القديمة أو المستحدثة حول ماهية الاستقلال القانوني لشعب له تاريخه وجغرافيته وحضارته وهويته القومية، فسيصلون إلى نتيجة مهمة وجوهرية، مفادها أن نجاح الاستفتاء وكذلك الاستقلال لن يشكل أي عائق لا للعراق ولا لدول الجوار الإقليمي التي يقطنها الكورد «الدولة الكوردية ستكون بعبعاً يهدد عرش القمع والظلم»، ولن يشجع بالضرورة على أي نزعات انفصالية أخرى، وسيتعايشون مع الاستقلال والدولة الكوردية كما مع جيرانهم سابقاً.
فإدارة الثعلب المغرور أردوغان المنهمكة بالكثير من القضايا هنا وهناك «الشعب التركي لا يهمه سوى المال والجنس» تعاني من مواجهات دموية وصراعات داخلية مع معارضيه الأتراك وأبناء الشمال الذين نسوا قضيتهم ولغتهم وتاريخهم، وضاعوا بين ممارسات السلطات التركية وسياسات حزب العمال الكوردستاني منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم «هل PKK قادرة على قطع العلاقات الوثيقة مع محاور تقف اليوم ضد عملية الاستفتاء، أم أنها تريد الحفاظ على جغرافية سايكس – بيكو؟»، وهي تخشى أن يشكل استقلال جنوب كوردستان سابقة تاريخية لديهم، خاصة وأن هناك مَن يحاول توريطها وإشعال حرب على حدودها «سيأتي يوم ويحرّر الشمال بأيدٍ غير شمالية»، أما عودة تنظيمات شرقي كوردستان إلى العمل المسلح أعاد المسألة الكوردية هناك إلى منعطف آخر، جعلت طهران تضطهد هذا الشعب بأعنف الأشكال والأساليب وتكبح كل نزعة تحررية، أضف إلى التمدد الكوردي «العالم يرى أنه تمدد كوردي، فيما نحن نرى العكس» الحاصل في غربي كوردستان مع المزيج الكبير من الأجندات والحلفاء التي تحركه وتحكم بمصيره «هناك خصوصية بين أجزاء كوردستان الأربعة، فالغرب والجنوب فيهما تداخل هائل من العرب والتركمان والآشور والسريان».
ليس ثمة شكّ في أن مساعي الاستفتاء القانونية ونجاحها ستولد نزاعات حادة بين العرب أنفسهم ومزيداً من الأصوات لإنهاء حقب الاستبداد والقضاء على بؤر إفقار الشعب وإفساده، وقد تستمر إلى إقبال الشرق الأوسط على انفتاحات دولية ونهضات التكنلوجية والتعليم الحديث، ولكن في مقابل هذا الشيء أرى أن الاستقلال لن يكون كلياً أو تاماً، وذلك للكثير من الملفات والقضايا العميقة والمحتدمة بين إقليم كوردستان وبغداد، ويلزمها الكثير من الوقت والجهد لحلّ وفكّ كل الارتباطات، تزامناً مع بعض الاستعراضات التي نظمت في بعد الدول الأوروبية على حساب معاناتهم ومعتقليهم ومجتمعهم المهدد بالمجاعة التعليمية والثقافية، على خلاف الأهداف والمطالب أو النتائج، إلا أنها في مجمل الأحوال جيدة، وقد تساعدهم في المستقبل كردّ للجميل.
أخيراً أرى أنه من الضروري أن يبدأ وعي الجيل الجديد بعدم تعريف نفسه بأنه كوردي سوري أو كوردي تركي أو عراقي أو إيراني، بل يعرّف نفسه على أنه كوردي من كوردستان أو أحد أجزاءها، دون أن نعرّف ذاك الجزء بكوردستان سوريا أو كوردستان العراق أو تركيا أو إيران، أي أن إلحاق مفردة أسماء الدول التي احتلت كوردستان هو بالأمر الخاطئ والخطير، ومعظم الأحزاب والحركات والمنظمات الكوردية والصحف السياسية والمدنية والثقافية لا زالت تناضل وفق تلك العقلية المبنية على تأييد المواقف المخجولة والتصريحات المتطفلة من مبدأ العاطفة لا مبدأ التفكير بتلك المواقف والتصريحات وهل تخدمهم أم لا، وعلى حركتنا أن تدرك أن الحرية لا تكون انتقائية بتوفر زمن وظرف ملائمين، بل الحرية هي على أرضه التاريخية وحضارته العريقة.
التعليقات