الماكينة الإعلامية لحزب بارزاني تروج منذ عدة أشهر لمسألة تنظيم إستفتاء في إقليم كردستان لتقرير المصير،بحيث بات الأمر كالخبز والماء يجب أن نتناولهما يوميا ضمن وجبات إعلامية مكثفة موجهة للشارع الكردي..وبرغم أن معظم دول العالم لا تؤيد هذه الخطوة المتسرعة،وكذلك دول الإقليم" إيران وتركيا والعراق"يرفضون بالمطلق السماح لتنظيم مثل هذا الإستفتاء،وبرغم عدم قبول هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر من قبل معظم الأحزاب الكردستانية الفاعلة والمتمثلة بالبرلمان، لكن يبدو أن بارزاني وحزبه مصممون لحد اللحظة بإجراء الإستفتاء ما يثير الإستغراب ويدفعنا بالتالي الى البحث عن دوافع مثل هذه الخطوة السريعة.
الكثير من السياسيين والباحثين والمثقفين الكرد أكدوا بأن تنظيم أي إستفتاء خارج إطار قرار برلماني غير ممكن، وأن أية خطوة بهذا الإتجاه لن تعتبر شرعية من الناحية القانونية، والراهن أن البرلمان معطل وأبوابه مغلقة ولايسمح حزب بارزاني لرئيسه بالعودة الى عاصمة الإقليم لإستئناف جلساته.
في خضم هذه الأحداث تخرج علينا قيادات تابعة لحزب بارزاني لتدعي بأن تنظيم الإستفتاء لايحتاج الى تفعيل برلمان كردستان،وأن الإستفتاء سيجري ومن لا يستقل قطار الإستفتاء والإستقلال سيبقى خارجه، وهذا تهديد مبطن من حزب بارزاني بطرد بقية الأحزاب والقوى الكردية من العملية السياسية بكردستان على غرار طرد وزراء حركة التغيير من الحكومة الحالية.
ومن جهة أخرى فقد أكد بارزاني وحزبه من خلال وفوده المرسلة الى بغداد بهذا الشأن مؤخرا، أن " الإستفتاء ليس بالضرورة أن يؤدي الى إعلان الإستقلال والإنفصال عن العراق" وهذه مفارقة غريبة لاتصدر إلا عن حزب مثل حزب بارزاني، حتى أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تساءل بتعجب عن جدوى تنظيم هكذا إستفتاء من دون الرغبة في الإنفصال عن العراق؟
إصرار حزب بارزاني على إجراء الإستفتاء له دلالات قد تكون فاتت على أغلب الساسة والمثثفين، وأعتقد بأن الهدف الأول من وراء كل ذلك هو إلهاء الشعب في الوقت الراهن وإشغاله عن همومه اليومية مع الأزمات السياسية والمالية والإدارية بإقليم كردستان، بالإضافة الى هدف آخر دعوني أوضحه بهذا المقال.
فبحسب إستطلاعات رأي محلية فإن الغالبية العظمى من أبناء شعب الإقليم ما عادت تثق بالأحزاب الكردية التي حكمت كردستان منذ إعلان إستقلالها شبه النهائي إثر إنتفاضة الشعب الكردي في ربيع عام 1991..وهناك معلومات شبه مؤكدة بأن عدد الناخبين المسجلين بسجلات مفوضية الإنتخابات"البايومتر" أي الناخبين المجددين سجلاتهم الإنتخابية والمستعدين للإدلاء بأصواتهم في الإنتخابات لاتتجاوز نسبة 25 بالمائة..وهذه نسبة ضعيفة جدا تشكل كارثة سياسية في الإقليم. ولذلك يحاول حزب بارزاني من خلال الضغط على المواطنين الى مراجعة المفوضية لتجديد بياناتهم، حتى أنه أبلغ مؤسسات ودوائر حكومة الإقليم بعدم تمشية أية معاملات رسمية لأي مواطن ما لم يبرز وثيقة تؤكد مراجعته للمفوضية وتسجيل إسمه في سجلات البايومترية، ولا أستبعد بأن يتم تهديد المواطنين بقطع رواتبهم أو فصلهم من الخدمة الحكومية إذا لم يشاركوا في الإنتخابات القادمة المقرر لها هذا العام.
الهدف الحقيقي لتنظيم هذا الإستفتاء على ما أظن، هو لجر الناخبين الى صناديق الإقتراع بأي ثمن كان.. فمسألة الإستقلال وتقرير المصير هو شعار قومي يثير حماسة الناخب الكردي، وإستغلال هذا الشعار في هذا الوقت بالذات هو آخر أوراق حزب بارزاني لجر المواطنين نحو صناديق الإنتخابات المقبلة مع ظهور بوادر متعددة بعزوف الناس عن المشاركة بتلك الإنتخابات، وطبعا حزب بارزاني يخشى مقاطعة الأغلبية من اليائسين لتلك الإنتخابات،ما سيؤدي الى فشله في تحقيق الأغلبية البرلمانية، فخصوم هذا الحزب من الأحزاب الأربعة الرئيسية "الإتحاد الوطني وحركة التغيير والإتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية" التي تحتل بمجموعها الأغلبية البرلمانية بـ(57) مقعدا مقابل (38) مقعدا لحزب بارزاني من شأن ذلك أن يقلب المعادلة على رأس هذا الحزب في الإنتخابات القادمة، خاصة وأن هناك مؤشرات تدل على أن الإتحاد الوطني وحركة التغيير ستخوضان الإنتخابات المقبلة بقائمة موحدة وقد تنظم إليهما الجماعة الإسلامية وجزء من الإتحاد الإسلامي والحركة الإسلامية، مما سيرجح كفة الأحزاب الرئيسية مقابل حزب بارزاني.
هذا من جهة،ومن جهة أخرى فإن عدم إقبال الجماهير على صناديق الإقتراع سيحد من محاولات حزب بارزاني لتزوير نتائج الإنتخابات القادمة، وإذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يواجهه رئيس مفوضية الإنتخابات العراقية الحالي وهو أحد كوادر حزب بارزاني من إحتمالات الإطاحة به والإتيان بشخصية مستقلة لرئاسة المفوضية، فإن فرص التزوير أو التلاعب بنتائج الإنتخابات ستنعدم أمام حزب بارزاني.
على أية حال أعتقد بأنه إذا بقي الوضع العام في ظل الأزمات الحالية على ماهو عليه اليوم، فإن الإنتخابات القادمة ستفشل بإقليم كردستان بسبب ضعف الإقبال على صناديق الإقتراع، أما إذا نجحت الأحزاب الرئيسية في تشكيل جبهة سياسية موحدة وإستطاعت أن تنظم صفوفها وتتقدم للإنتخابات المزمع إجراؤها في أيلول من العام الجاري بشكل موحد فإن الوضع قد يتغير، عندها فان هذه الأحزاب ستدفع بأنصارها نحو تلك الصناديق، وإلا فإن الشعب قد مل هذه الصراعات السياسبة، وفي ظل إفتقاده للخبز بسبب قطع رواتب الموظفين الى أقل من الربع، فمن الصعب جدا أن يكون هناك إقبال كبير على صناديق الإنتخابات.
وللتذكير فقط فإن إستفتاءا بهذا المضمون قد جرى عام 2005 بالتزامن مع الإنتخابات البرلمانية، وقد أظهرت النتائج أن نسبة 98 بالمائة من الكرد في ذلك الوقت كانت ترغب بالإستقلال، ولكن الوضع تغير اليوم بسبب فشل سلطة الإقليم في إدارة الحكم..إذن إن ما يروجه حزب بارزاني من شعار الإستفتاء لايعدو سوى آخر محاولة منه لجر المواطنين نحو صناديق الإقتراع، وإلا فلا معنى لتصريحات قادة هذا الحزب بأن الإستفتاء هو للإستهلاك المحلي وليس لإنشاء الدولة الكردية المستقلة.
- آخر تحديث :
التعليقات