يتعرّض رئيس إقليم كوردستان مسعود بارزاني لضغوط خطيرة متعدّدة من إيران وتركيا – الدولتان الإقليميتان اللتان تلعبان دوراً استراتيجياً في الشرق الأوسط، من افتعال الأزمات وتشكيل الكيانات، التي من شأنها محاربة الكورد بالدرجة الأولى، ولإقواء نفوذها وسياساتها – هذه الضغوط التي تهدف إلى الزجّ بالبارزاني في حرب أهلية جديدة ضدّ «حزب العمال الكوردستاني»، فيما هو يرفض ذلك منذ عام 2008، لأنه يدرك مرارة الاقتتال الكوردي – الكوردي، والتي رأى نتائجها في الحرب الأهلية الكوردية عام 1994، والسياسي المتمرّس والأكاديمي، يدرك هذه الحقيقة الغائبة عن الأذهان، على عكس سياسيي ومثقفي المرحلة الراهنة، فهم ليل نهار منشغلون بمدى نزاهة نضالية ووطنية مسعود بارزاني وحكومته وحزبه وإخلاصهم للقضية والشعب، فهو يتعرّض أيضاً لضغوط سرّية وعلنية من جانب الحكومة العراقية المشكّلة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي تثبت فشلها يوماً بعد يوم، ولضغوطٍ داخلية تتمثّل بمواقف حلفاء إيران «حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني» و «حركة التغيير» و «الحشد الشعبي الشيعي» المعادية له، حيث يتابع كلّ تفاصيلها المندوب السامي الإيراني قاسم سليماني، إضافة إلى انشغاله بالأزمة المالية، بعد قطع الحكومة المركزية الموازنة عن موظفي الإقليم، وسط تراكم حالة الفساد المعقّدة، ونزوله شخصياً لساحات الحرب وإدارته المعارك ضدّ تنظيم داعش.
ومن غير المعروف إلى متى يمكن للبارزاني ممارسة سياسة «ضبط النفس»، خاصة حيال ضغوط حزب العمال الكوردستاني، الذي بات يتعامل مع الإقليم كتعامل الفصائل الفلسطينيّة مع الأردن عام 1970، وتعامل منظمة التحرير الفلسطينية مع لبنان مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بدفع من استخبارات النظام السوري. إذ يريد «العمال الكوردستاني» بدعم من الأنظمة الشمولية المعادية تعويض فشله الكبير في الشمال الكوردستاني، عبر تحقيق مكاسب محدّدة في العراق وسوريا، والتي تشمل المكاسب الاقتصادية والوحدة الوطنية مع السوريين، وحطبه في ذلك أبناء غربي كوردستان. لكن المؤكّد أيضاً أن بارزاني يرفض تكرار تجربة مئة عام فاشلة ومليئة بالمآسي والكوارث مع الدولة العراقية، التأكيد الذي جاء خلال لقاء مع صحيفة الحياة اللبنانية.
ظهر مؤخراً في الأوساط السياسية والإعلامية العراقية بعض المشاريع السياسية، تتحدّث عن مواثيق عراقية لرعاية الدولة الكوردية، وعن رغبة حكومة حيدر العبادي الملحّة في الجلوس من جديد على طاولة الحوار مع حكومة إقليم كوردستان، وذلك لأسباب كثيرة وعميقة، وأهمها لإيقاف التمدّد الكوردي والتقدّم الذي حقّقه على الصعيد الكوردستاني والدولي، تحديداً في جزئي كوردستان الغربي والجنوبي، والخشية من أن يمتدّ هذا التقدّم إلى الجزأين الأخريين المُدارين من قبل طهران وأنقرة، وهذا ما يخيف موقّعي اتفاقية سايكس – بيكو وخاصة الأطراف التي تحارب الكورد دائماً.
ففي الأمس كانوا يعتبرون سايكس – بيكو اتفاقية استعمارية وأنها هضمت حقوقهم، وظُلموا من الدول التي رعت واستفادت من الاتفاق، فلماذا يريدون اليوم الإبقاء على هذه الحدود التي انتهت صلاحيتها، والتي سيطرأ عليها تغيّرات كثيرة من الدول العظمى التي تدير أزمات الشرق الأوسط؟
ما أردّت قوله من خلال عنوان المقال ومقارنته بالضغوط الخارجية والداخلية التي يعانيها الإقليم ومساعي حكومة العبادي وحلفائه في إيقاف وإفشال عملية الاستفتاء والعودة إلى بغداد، فإن بارزانية الاستفتاء هي علامة للاستقرار والتعايش السلمي، ليس التعايش الكوردي العربي، بل تعايش دولة تجاه دولة، أي أن في داخل هذا الاستفتاء هناك شعور ورغبة عارمة من بارزاني نفسه في أن يخوض هذا العمل الشرعي، بعد أن وفِّـرَت له الشروط والظروف الملائمة، خاصة بعد فشل دام لأكثر من اثني عشر عاماً لتطبيق المادة (140) من الدستور العراقي، فأهم الأسباب التي أدّت إلى خوض بارزاني للاستفتاء تكمن أولاً في رغبة الملايين من الكورد في الحصول على دولتهم الكوردية وحقوقهم المشروعة، واستيائهم ثانياً من إخفاقات الحكومة العراقية المتتالية في الدخول في حوار معمّق معهم ومع كلّ المكوّنات الأخرى، من واقع الإقرار بالحقوق لا رفضها، ومن منطلق الرغبة الداخلية الجادّة في البحث عن صيغ تعيد الاستقرار المفقود، واطمئنان المكونات بضمان المساواة والمشاركة الكاملة، وكبح غول الطائفية التي هي المهدّد الحقيقي والأكبر لوحدة العراق وسلامته والتعايش بين أهله، وثالثاً من مؤامرات حكومتي «المالكي والعبادي» في عدم تنفيذ ما ترتّب عليهما من قرارات السلم الأهلي وتوسيع سلطات الإقليم، ورابعاً فقدان الثقة وغياب رغبات التعايش المشترك في العراق وشعبه مع إقليم كوردستان، ولتهيئة الظروف الدولية والإقليمية جراء الفوضى العارمة والخلّاقة في العراق خامساً، وأخيراً عمل الدول العظمى على استثمار مناخ الثورات والأزمات التي يعيشها دول الشرق الأوسط، لنيل الحصّة الأكبر من الثروات «المياه والبترول والطاقة»، وتوزيع ما تبقّى منها على الحكّام الجدد والدول الجديدة.
يبقى القول أن نجاح عملية الاستفتاء سيوفّر الأرضية القوية لإعلان قيادة الإقليم الاستقلال التام، وسط المعادلات السياسية المتعلّقة بمستقبل المنطقة، والتي تستقرّ على أسس ومبادئ وتوجّهات جديدة، وسيحظى بقبول دولي وحتى إقليمي مُريح، رغم حساسية بعض الملفات والقضايا، لكنها مؤاتية، لما سينتجه هذا الاستفتاء من توفير بنية كبيرة وواسعة، لتنشيط المشاريع الاقتصادية والتجارية، لمعظم الشركات الدولية داخل الإقليم ودول الجوار، وما يمثله قوّة جيشه العسكرية من واقع حيّ في وجه أعتى التشكيلات الإرهابية، والمساهمة في استتباب الأمن في المنطقة.
فمنذ تأسيس الدولة العراقية والحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد، سواء كانت حكومات مَلكية أو جمهورية، والكورد مواطنون يعيشون فيها من الدرجة الثانية، برتبة «إهمال أمورهم وتنفيذ المجازر ضدّهم»، فلم ينصفهم حكّام بغداد لا بمشاريع تنموية اقتصادية ولا بتعيين حكّام كورد لإدارة مناطقهم الكوردية، لذا فلهم كلّ الحق في أن تكون لهم دولة مستقلة أسوة بباقي دول العالم، وهم لم ينقطعوا يوماً لمحاولاتهم هذه سلمياً أو عسكرياً، وحروبهم كانت في نزيف مستمرّ للخزينة العراقية، فاستقلال الكورد ليس لمصلحة الكورد وحدهم، بل فيها مصلحة خالصة للعراق والدول المحيطة بها حدودياً، فقيام الدولة الكوردية هي بمثابة مفتاح حل لحروب وأزمات الشرق الأوسط.
كاتب وصحفي كوردي
التعليقات