من خلال متابعتنا لخطاباته وتصريحاته اليومية، يتجلى لنا السيد حيدر العبادي، حتى الآن، بمظهر السياسي الحذر والحكيم، في التعاطي مع أحداث المناطق المتنازع عليها، حتى وإن كانت بعض الأحداث ميدانياً تُحرجه أحياناً وتنسف تطلعاته وإفتراضاته!.
ونقول هنا"حتى الآن" ولا نتحدث عن الغد طبعاً!، لأن تجارب الحكومات المتعاقبة في العراق منذ 1921م، هي تجارب مشؤومة يفيد كلها بأن حُكام هذا البلد، يتمسكون في الوهلة الأولى والمراحل التمهيدية في الحكم، بالمباديء والقيم الناظمة للدولة ويتعاملون بشيء من الواقعية والمنطق مع واقع المجتمع العراقي وأزماته وقضاياه، لاسيما حينما تكون الدولة ضعيفة سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً، إلا أنهم ينقلبون فيما بعد على المباديء والقيم كلها ويتحولون تدريجياً الى أنظمة أستبدادية شمولية غير مفقهة لشيء سوى لغة القمع والإضطهاد وشن الحروب، وخاصةً عندما تجتاز الدولة طور الضعف وتتسلح عسكرياً وتصبح الحكام عملاء مطيعين للأجنبي للبقاء في الحكم والسيطرة على السلطة والثروة و مقدرات المجتمع كلها.
قلنا إن السيد العبادي، بعكس ذلك، يتعامل حتى الآن مع الأحداث الجارية في المناطق المتنازع عليها بشيء من الحذر والحكمة، لاسيما على مستوى الخطاب الرسمي للدولة، لأنه يعلم حقائق كثيرة ربما لايعلمها الآخرون، لاسيما الماكنة الدعائية الإعلامية الرسمية وغيرها، عن مكامن الأمور وأبعادها، أبرز هذه الحقائق هو أن الدعم الذي تتلقاه حكومته من قِبَل الولايات المتحدة لايساوي (10%) من دعم الغرب لنظام صدام حسين في حينه ومع ذلك أنتهى الرجل وحزبه (1968-2003م) وبقوا الكُرد على أرضهم، ويتذكر جيداً ان مآل الأنظمة الأخرى الحاكمة ما قبل صدام كان نفس الحال والمآل، أي سقطت كلها وظل الشعب الكردي على حاله صامداً واقفاً على قدميه.
من جهة أخرى، أن السيد العبادي يعي أن الدعم الأميركي له في الوقت الراهن مرتبط أيضاً بأهداف مرحلية مختلفة، أبرزها، ضرورة الوقوف مع حكومته لإنهاء وجود داعش في العراق أولاً، وهذا يأتي ضمن الإستراتيجية التي وضعتها الإدارة الأميركية الجديدة ووعد به ترمب اثناء حملته الرئاسية بخصوص الإرهاب.. والهدف الثاني هو معاقبة أميركية ضمنية-وقتية لبعض ساسة الكرد، الذين لم يذعنوا لوساطة الأمريكيين وتحذيراتهم بشأن قضية الإستفتاء ولم يتفهموا الإستراتيجية الأميركية المذكورة دون أن يعني أن هذه المعاقبة ستستمر الى ما لانهاية، أما الهدف الثالث والأهم، فهو إظهار العبادي كبطل سياسي في الوقت الحاضر وإعتباره من أفضل العناصر بين القادة الشيعة لإنتخابه ثانيةً لرئاسة الوزراء وبالتالي تفويت الفرصة كاملةً على الشخصيات الشيعية الأخرى، الأكثر خضوعاً لإملاءآت طهران وتمدداتها، لتبؤ موقع رئاسة الحكومة المقبلة، ومن خلال هذه الدعم له، أي للعبادي، تحقيق الحد من تعاظم النفوذ الإيراني وإعادة العراق الى المحيط العربي.
السيد العبادي يدرك أيضاً أن التطورات العسكرية والميدانية للجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها، لاتعني إنتصاراً عسكرياً ولا حتى نصراً سياسياً لأنه يعلم بأنه لولا الضوء الأخضر من الولايات المتحدة والإتفاق مسبقاً مع الأطراف الكردية والإستعانة بالخبرات الإيرانية والتركية وخبرائهم العسكريين في عمليات إنتشار القوات، لكان الأمر الآن مختلفاً تماماً، بل ربما تحولت المواجهة العسكرية والرهان عليها الى حرب أهلية و وقوع الأقتتال في الشوارع والتطهير العرقي والطائفي ونزوح مئات الآلاف من الكرد والعرب و التركمان في المناطق المتنازع عليها، وهذا ما كان سيعقبه لا محالة تغييراً كاملاً للسيناريو وتسمية الأمور برمتها!، أي تحول العملية تماماً من إنتشار للقوات وفرض للأمن بالسلاسة التي تحققت، الى إقتتال عنيف وطويل، بل الى نشوب حرب أهلية وفتنة قومية، وبالتالي تحول صورة الجيش العراقي على أثره، من طرف ممثل للقانون والدولة الى طرف متورط في حرب أهلية مفتقداً فيها كامل هيبته وشرعيته، لاسيما أن الجيش العراقي يستعين بتشكيلات أخرى عسكرية غير نظامية كقوات الحشد الشعبي، التي أرتكبت – وللأسف- مجازر إنسانية في قضاء طورزخورماتو وأماكن أخرى وصلت الى حد حالات الإغتصاب بحق النساء الكرديات، فضلاً عن قتل الناس عشوائياً كما حدث مدينة خانقين وحرق البيوت وتشريد المواطنين الكرد الأبرياء في تلك المناطق وغيرها..
ولو وقعت فعلاً تلك الحرب المدمرة والسيناريو الخطير، لتدخلت قوى دولية فوراً بالضد من حكومة العبادي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وتغيرت الأمور بعكس السيناريو الحالي، ولهذا السبب بالذات لاحظنا أن العبادي قال بصريح العبارة و في أكثر من مرة: "لا نعتبر ما حصل إنتصاراً ولانحتفل به، بل كل ما في الأمر هو إعادة الهيبة للدولة الإتحادية في هذه المناطق"، وقد أبلغ العبادي الأمريكيين بهذا الهدف لاغيره".
ما نود قوله هنا بشأن هذا المستجد السياسي الحاصل، هو أن الدعم الأمريكي، في النهاية، لحكومة عراقية تترأسها شخصية شيعية في ظل إستراتيجية إحتواء النفوذ الإيراني – على ما يهدف اليه الإدارة الأميركية- هو ليس دعماً مجانياً أطلاقاً، أو دون دراسة وتخطيط وهدف!، فالسياسة ليست عملاً خيراً، فما بالك مع دولة عظمى كالولايات المتحدة، المعروفة ببراغماتيتها القصوى في التعامل وإنقلابيتها الدراماتيكية في السياسية الخارجية!.
كما أن الأمريكيين يخططون لتحقيق أهداف أستراتيجية بعيدة المدى في منطقة الشرق الأوسط، منها البناء التدريجي لأنظمة سياسية ديكتاتورية وإسقاطها فيما بعد، في آن واحد..! فالمرحلة الأولى لهذه الإستراتيجية تضمن لهم عادةً أنظمة عميلة لحين تحقيق بعض الأهداف السياسية والإقتصادية، والمرحلة الثانية تضفي عليهم صورة سياسية وأخلاقية هي صورة المنقذ للشعوب المقموعة والمضطهدة علي يد الأنظمة الديكتاتورية، وربما موقع حكومة العبادي اليوم، ضمن هذه الإستراتيجية الخطيرة، هو الأسوأ مما نتوقعه!، لأن واشنطن تريد منها أن تُضعف النفوز الإيراني في العراق من جهة، وتمضي قدماً من جهة أخرى في تنفيذ المرحلة الأولى لإستراتيجيتها وهي بناء نظام سياسي ديكتاتوري على غرار نظام صدام حسين..! والضحية من؟، هي، في النهاية، ليس سوى الشعب العراقي بكافة مكوناته وأطيافه، ولاسيما المكون الشيعي الذي سيخسر موقعه المتميز حالياً في السلطة والدولة العراقية الى أجل غير مسمى!،
كل هذه الأمور والسيناريوهات، تتوقف اليوم على مدى قدرة السيد العبادي على التعاطي الناجع والقويم مع خبايا وخفايا هذه الإستراتيجيات الجهمنية للولايات المتحدة وأهدافها المرحلية والمُبرمجة، ومدى الإستفادة من تجارب الأنظمة العراقية السابقة، ولا مراء من أن أحد أهم المداخل لتفادي الدعم المفخخ الذي تقدمه الأدارة الأميركية له وللأنظمة السياسية الموالية في منطقة الشرق الأوسط والذي تهدف من خلاله توريطهم في إرتكاب جرائم حرب، هو، ليس إلا مدخل السلام والوئام الداخلي، وقد لايتحقق هذا إلا بإنتهاج سياسات وممارسات ديمقراطية قائمة على إحترام إرادة الشعب العراقي ومكوناته والإمتثال الحقيقي لمبدأ التوزيع العادل للثروة والسلطة والتخلي عن عقلية الدولة المركزية القوية، التي كانت تجربة فاشلة ولم تنتج للعراق سوى الديكتاتورية والقبور الجماعية.
بإختصار، أن ترجمة كل هذه الأفكار والمسلمات، تتمثل اليوم، قبل أي شيء، في مدى التعامل بحكمة وصبر، ودون أدنى إهتمام بهواجس الدعاية الحزبية والإنتخابية، مع ملف المناطق المتنازع عليها وإحترام كافة مكوناتها وعلى رأسهم المكون الكردي، ما يعني مبدئياً أن على السيد العبادي الإبتعاد كلياً عن أي مظهر من مظاهر الإستقواء بالخارج والغرور السياسي وأستخدام منطق القوة والحسم العسكري تجاه القضايا الخلافية الداخلية على ما تتجه اليها الأمور اليوم للأسف و دون التفكير في تداعياتها وعواقبها الوخيمة!، ويستوجب عليه أيضاً الإشتغال جدياً على تهدئة الأجواء المتوترة حالياً والدعوة الى الحوار والإقرار بمشاركة الكُرد في كافة المناطق المتنازع عليها وإبعاد القوات المسلحة فيها وعدم المس بالواقع الديمغرافي، أو أي ممارسة أخرى من قبيل التمييز العنصري الذي صرنا نقلق عليه تماماً بعد الإعتداءآت والخروقات التي حصلت بحق الكرد مع دخول الجيش والحشد الشعبي الى المناطق الملتهبة.
كاتب و باحث إعلامي من إقليم كردستان.
التعليقات