تناولنا في أكثر من مقال موضوع اللامركزية المالية في الصين و سياسة الإنفاق على السلع العامة، و خلصنا إلى أن معظم الإصلاحات التي تم إطلاقها في العقد الماضي تمثل خطوات مهمة في اتجاه بناء المجتمع المتجانس، لكن الصين لا تزال تواجه عدة تحديات رئيسية : كخفض تكاليف الرعاية الصحية وتشجيع زيادة الكفاءة بأسعار معقولة، وتعميق تغطية التأمين (أي تخفيض حصة ما يدفع من الجيب)؛ وتحسين عدالة وكفاءة الإنفاق الحكومي من خلال استهداف الفقراء و المناطق الفقيرة، وهو ما يعني تبني برنامج أوسع لمكافحة الفقر والعوز لاسيما بالمناطق الريفية، وسنحاول من خلال هذا المقال التوسع في جانب على درجة من الأهمية وهو الحد من الفقر الريفي..
فعملية الحد من الفقر لم تكن بالبرنامج المنفصل عن باقي السياسات العمومية في حقبة مابعد 1978، فخصخصة الزراعة وإصلاح نظام الأسعار ساهم في رفع مداخيل المزارعين، وهو الأمر الذي ساعد على توفير الموارد المالية التي تم استثمارها في مشاريع البلدات والقرى، فكان لهذه المشاريع الصناعية دور مهم في استقطاب العمالة الريفية في الأنشطة الغير الزراعية، وهو ما ولد دورة حلزونية للنمو استطاعت أن تقلص وثيرة الفقر الريفي.
استراتيجية الصين للحد من الفقر منذ 1978، عرفت سلسلة من التطورات يمكن تحديدها كما يلي :
أولا- الإصلاح الهيكلي وتخفيف حدة الفقر (1978-1985)
كان عدد السكان الذين يعيشون في الفقر في عام 1978حوالي 250 مليون، أي 30،7 ٪ من مجموع سكان الريف، وفقا لمعيار الفقر الذي حددته الحكومة الصينية. أسباب كثيرة أدت إلى هذا العدد الكبير من الفقراء، وأحد الأسباب الرئيسية كان نظام التشغيل في مجال الزراعة الذي لا يتناسب مع احتياجات تطوير القوى المنتجة، ذلك أن الفلاحين افتقروا إلى الحماس للإنتاج، لذلك، شكل إصلاح النظام الزراعي الطريقة الأمثل لتخفيف وطأة الفقر.
فالإصلاحات التي بدأت في عام 1978 هي- أولا وقبل كل شيء- إصلاح نظام إدارة الاراضى، أي استبدال نظام الإدارة المحلية الجماعية/ الشعبية، بنظام المسؤولية التعاقدية للأسر المعيشية. فتغيير نظام إدارة الأرض منح الفلاحين الحماس الحقيقي للعمل، وهو ما مكن من تحرير القوى المنتجة وتحسين الإنتاج. وفي غضون ذلك، كثير من الإصلاحات الأخرى، مثل التخفيف التدريجي من السيطرة على أسعار المنتجات الزراعية، وبدل جهود كبيرة لتطوير مشاريع البلدات، وكلها إصلاحات ساهمت في تقليص حدة مشكلة الفقر في المناطق الريفية.فهذه الإصلاحات سرعت من تنمية الاقتصاد الوطني. أفادت الفقراء من ثلاث نواحي : رفع أسعار المنتجات الزراعية، وتحويل هيكل الإنتاج الزراعي نحو القيمة المضافة الأعلى، وتوظيف العمال في المناطق الريفية في القطاعات غير الزراعية، ومن ثم تمكين الفقراء من التخلص من الفقر. وكانت النتيجة تخفيض حدة الفقر في المناطق الريفية.
ووفقا للإحصاءات الرسمية، في الفترة من 1978 إلى 1985 نصيب الفرد من الناتج من الحبوب شهد زيادة بنسبة 14 ٪ في الريف، من جانب القطن 73،9 ٪ المحاصيل الزيتية
176،4 ٪، واللحوم بنحو 87،8 ٪ والدخل الصافي لكل فلاح تضاعف بحوالي 3،6 مرات ؛ عدد الفقراء غير قادرين على إطعام وكساء أنفسهم قد انخفض من 250 مليون إلى 125 مليون، تقلص إلى 14،8 في المائة من مجموع السكان في المناطق الريفية.وعدد الفقراء انكمش بمعدل بلغ في المتوسط 17،86 مليون سنويا.
ثانيا- توسع برامج التنمية الموجهة نحو التخفيف من وطأة الفقر (1986-1993)
في منتصف الثمانينات، سياسة الإصلاح والانفتاح أعطت دفعة قوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، غير أن عدد من المناطق ظلت متخلفة عن الركب بفعل عوامل اقتصادية، اجتماعية، وتاريخية أو طبيعية.. فأصبحت التنمية الغير متكافئة في الأرياف واضحة، فبرز عدد لابأس به من ذوي الدخل المنخفض، الذين يعجزون عن تلبية احتياجاتهم المعيشية الأساسية.
وبين عامي 1986 و 1993، ولتخفيف حدة الفقر اعتمدت الحكومة الصينية سلسلة من التدابير الهامة منها: منح مساعدة خاصة للفقراء في وحدات العمل، ووضع مصلحة خاصة لتقديم المساعدات المادية و العينية وإصلاح نهج الإغاثة التقليدي. كما تم الشروع في وضع سياسات الموجهة نحو الحد من الفقر. وبفضل الجهود التي بذلت على مدى 8 سنوات، صافي الإيرادات لكل الفلاحين في المقاطعات الفقيرة التي أولتها الحكومة أهمية خاصة زادت من 206 يوان في عام 1986 إلى 483،7 يوان في عام 1993؛ عدد من الفقراء في المناطق الريفية انخفض من 125 مليونا إلى 80 مليون، بمتوسط انخفاض سنوي بلغ 6،4 مليون شخص، وبمعدل انخفاضا سنوي بلغ في المتوسط 6،2٪، ونسبة الفقراء من مجموع سكان الريف انخفض من 14،8 ٪ إلى 8،7 ٪.
ثالثا- معالجة المشاكل الرئيسية لتخفيف حدة الفقر (1994-2010)
على اثر الجهود التي بذلت للحد من الفقر حدتث تغيرات كبيرة في ملامح الفقر في الصين ؛ فتوزيع السكان الفقراء أصبحت له خصائص جغرافيه واضحة، ذلك أن معظم الفقراء يعيشون في وسط وغرب الصين، والجبال الصخرية القاحلة في منطقة الجنوب الغربي لجمهورية الصين، والمناطق القاحلة في الشمال الغرب، أي أن الفقراء يتمركزون في المناطق الجبلية (التي تعاني من تضاريس وعرة، ونقص الأراضي الصالحة للزراعة، وضعف شروط النقل، وتآكل التربة)، فالعوامل الرئيسية الكامنة وراء الفقر تعود بالأساس إلى قساوة الظروف الطبيعية الصعبة، وضعف البنى الأساسية، وتخلف التنمية الاجتماعية.
لذلك، أطلقت الحكومة في مارس 1994 برنامج 7 سنوات للتخفيف من حدة الفقر" Seven-Year Priority Poverty Alleviation Program"، والذي وضع كأولوية انتشال حوالي 80 مليون شخص من دوامة الفقر المدقع في 7 سنوات بين عامي 1994 و 2000. وقد تم حشد موارد مالية وبشرية مهم لتنفيذ هذا البرنامج، وبعد 3 سنوات (1997-1999)، تمكنت الصين من حل مشكلة الغذاء والكساء ل8 ملايين شخص في السنة. وبحلول نهاية عام 2000، الأولويات الأساسية التي رسمت لبرنامج 7 سنوات قد تحققت على العموم.
وبفضل الجهود الفعالة و الشاقة التي بذلت على مدى عقدين من الزمن، الصين حققت تقدما هائلا في برنامج التخفيف من حدة الفقر، فتم التغلب على :
• حل مشكلة الغذاء والكساء لأكثر من 200 مليون من الفقراء في المناطق الريفية قد تم حلها: عدد الفقراء في المناطق الريفية الذين يجدون صعوبة في الحصول على ما يكفى من الغذاء والكساء قد انخفض من 250 مليون في عام 1978 إلى 20 مليون في عام 2010؛ معدل الفقر انخفض هناك من 30،7 ٪ إلى حوالي 3 ٪.
• تحسن الإنتاج والظروف المعيشية بشكل ملحوظ: ففي نهاية عام 2010، 98 ٪ من القرى التي توجد بالتراب الإداري للمناطق التي تعاني من الفقر تم تزويدها بشبكة الكهرباء، و 89 % بالمسالك الطرقية، و 87 ٪ بخدمات البريد، و 87،7 ٪ بخدمات الهاتف.
• تسريع وثيرة التنمية الاقتصادية: فأثناء تنفيذ برنامج سبع السنوات للتخفيف من حدة الفقر، القيمة المضافة الزراعية للمقاطعات الفقيرة -التي أعطتها الحكومة الأولوية في مجال تخفيف حدة الفقر - ارتفعت بنحو54 ٪، وبلغ متوسط معدل النمو السنوي 7،5 ٪ ؛ والقيمة المضافة الصناعية نمت بنسبة 99،3 ٪، وبلغ متوسط معدل النمو 12،2 ٪ والإيرادات المالية المحلية تضاعفت تقريبا، وصافي دخل الفلاحين ارتفع من 648 يوان إلى 1337 يوان، بلغ متوسط معدل النمو السنوي 12،8 ٪.
• تسريع تنفيذ التعهدات الاجتماعية. النمو السكاني في المناطق المنكوبة بالفقر تم ضبطه، وشروط تشغيل المدارس قد تحسنت، وهو ما أدى إلى تحسين نوعية العاملين. كما تم تجديد مستشفيات المدينة و ومراكز الرعاية الصحية بالبلدات في معظم المناطق الفقيرة. ونتيجة لذلك، تم خفض نسبة العجز في الأطباء والأدوية.
وعموما، بالرغم من النواقص التي لازالت تواجه سياسة الحد من الفقر في الصين، إلا أن التجربة الصينية ينبغي أخدها بعين الاعتبار، باعتبارها من التجارب الرائدة، فهي لم تخضع لإملاءات البنك الدولي و مختلف الهيئات الدولية، بل اعتمدت على رؤية صينية مزجت بين محدودية الإمكانات و ضخامة الاحتياجات، فتم رسم سياسات تقوم على تشجيع الاستثمار المنتج و خلق دورة حميدة للتنمية، و دعم الفئات المعوزة والمناطق الفقيرة عبر تضامن بين الأقاليم تشرف عليه الحكومة الصينية، وتبني سياسات فعالة لتوزيع عائد النمو أفقيا وعموديا..و هو ما تفتقر له السياسات الدولية المنبثقة عن أجندة البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و إجماع واشنطن، التي تروج لنمو اقتصادي يغني الأغنياء و يفقر الفقراء، وهذا من الاختلالات التي أصابت معظم البلدان العربية التي انجرفت لسياسات الليبرالية المتوحشة، المدعومة بفساد النخب الحاكمة،وضعف كفاءة وفعالية الأداء الاقتصادي وهو ما أدى إلى تفقير هذه المجتمعات و تضييق نطاق خيارات الإنسان العربي... و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي.
- آخر تحديث :
التعليقات