في أغسطس الماضي، أفردت صحيفة "نيويورك تايمز" اليسارية، الداعمة حينها لترشح هيلاري كلينتون إلى الرئاسة، مقالةً لمدير الاستخبارات الأسبق جي موريل وصف فيها منافسها دونالد ترامب بأنه "عميل لروسيا جنّده الكرملين يشكل خطراً على الأمن القومي". وإن حفِلت الحملات الانتخابية الأميركية في 2016 بالكثير من أساليب الضرب تحت الحزام، إلا أن المقالة إياها عُدّت من النوادر التي يندفع فيها مسؤول أمني رفيع في خضم معمعة سباق الرئاسة إلى اتهام مرشح بما يمكن اعتباره "الخيانة العظمى". ومؤخراً، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" اليسارية، التي اصطفت كذلك إلى جانب كلينتون، تقريراً للاستخبارات الأميركية صنّف على أنه "سري" يتهم روسيا بالتدخل في الانتخابات لمساعدة ترامب. وسرعان ما رد الأخير وغمز من قناة فشل "سي آي إيه" في تقييماتها، أو لربما تعمدها إصدار تقارير مضللة، بالقول إن المحللين الذين توصلوا الى هذا التقييم هم أنفسهم الذين كانوا يقولون إن النظام العراقي السابق امتلك أسلحة دمار شامل. لا يعمد الرئيس الأميركي المنتخب إلى إخفاء استخفافه بالمؤسسة الأمنية بل واستحقاره لها. فرجل الأعمال الآتي من خارج واشنطن يرى في المؤسسات الحكومية في العاصمة الأميركية أجهزة بيروقراطية فاسدة تساهم في تضخيم الحكومة الكبيرة وباتت عبئاً بهيكليتها ودورها الحالي المتوسع. وهو أوغل في الآونة الأخيرة في إهانة "سي آي إيه" وازدرائها برفضه استلام التقارير الأمنية اليومية التي توضع على مكتبه كل صباح في تقليدٍ تتبعه الوكالة تجاه الرؤساء المنتخبين لتعميق فهمهم للأحداث العالمية ويُنظر إليه على أنه "عربون" العلاقة مع سيد البيت الأبيض الجديد.
ولا تبدو الأمور ناصعةً أكثر بالنسبة إلى العلاقة مع وزارة الدفاع. فالانعزالية التي يتوقع أن يلوذ بها ترامب قد تؤثر بشكلٍ أو بآخر على دور "بنتاغون" خارج الحدود بما يعنيه ذلك من صفقات سلاح ونفقات وميزانيات ستنتهي إلى الانكماش. وهذا بدوره سيدفع الشركات متعددة الجنسيات سواء تلك العسكرية أو حتى التجارية، والتي تملك نفوذاً هائلاً على دوائر صنع القرار، إلى التبرم والبحث عن وسائل شتى للي ذراع الرئيس المنتخب، خاصةً أنه أبدى أكثر من مرة رغبته في "أمركة" الاقتصاد الوطني والعودة إلى الحمائية ومحاربة التغلغل الصيني والمكسيكي في سوق العمل ببلاده. وأثار الرجل امتعاضاً بتعيينه الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس لحقيبة الدفاع، وهو شخصية غير محبوبة لدى موظفي واشنطن الحكوميين بسبب ما يشاع عن شخصيته الفظة ومواقفه الرافضة لأي انفتاح مع إيران والصين وخصومته الكبيرة مع إدارة باراك أوباما. وسارعت اللوبيات العسكرية والمالية إلى الاتصال بالنواب الديمقراطيين في الكونغرس لإثارة مسألة حظر تولي الجنرالات المتقاعدين منصب وزارة الدفاع لمدة سبعة أعوام بعد تقاعدهم بالتوازي مع طرح الحديث عن ضرورة ضمان السيطرة المدنية على الجيش من خلال حملة منظمة على المستويين السياسي والإعلامي، بدعم من الشركات الكبرى صاحبة المصالح مع بكين.
اقتصادياً، تلوح في الأفق بوادر كارثة ستضرب الشركات المتمكنة من الاقتصاد الأميركي إن طبق ترامب تهديده المشهور: "أعذر من أنذر"، حيال الشركات التي تبني مصانعها في الخارج ثم تحاول بيع سلعها في الولايات المتحدة، بفرض 35% ضريبة استيراد بحقها. والظاهر أن الرئيس الأميركي المنتخب بصدد "الانقلاب" على المفاهيم الاقتصادية الراسخة في بلاده منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي أطلقت الحقبة الريغانية لها العنان أكثر فأكثر، حيث تعهد بخفضٍ كبير للقوانين البيروقراطية والضرائب على الشركات التي تنشط داخل الولايات المتحدة وتلك المتوسطة.
والثابت، أن الدولة العميقة ليست في واشنطن فحسب بل منتشرة في ولايات أميركية أخرى من المحيط إلى المحيط. هي في ولاية كاليفورنيا في هوليود، حيث مركز صناعة الأفلام الذي يميل تقليدياً إلى اليسار، وفي "سيليكون فالي" حيث أصحاب الياقات البيضاء الذين يزيد دخلهم السنوي عن 150 ألف دولار. هي في ولاية ماساتشوستس المعروفة بأنها مهد اليسار الليبرالي ومعقل جون كيري السياسي وعاصمة شركات التكنولوجيا والمعاهد والجامعات التي يرتادها النخبة. وهي بطبيعة الحال في نيويورك حيث حيتان "وول ستريت".
يقيناً أن السياسة في الولايات المتحدة تتشكل أساساً من نشاطات "اللوبيات". ومراكز القوى والضغط تلك هي نفسها التي أضحت تشكل "الدولة العميقة" في البلد الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في العالم. وعليه، فإن تقليص نفوذ "سي آي إيه" و"بنتاغون" سيكون العنوان العريض، في الغالب، للمعركة المقبلة بين البيت الأبيض ورجال ترامب المعيّنين في الأجهزة الحكومية من جهة، و"الدولة العميقة" في تلك المؤسسات ورموزها المتمثلة في كبار الجنرالات وضباط الاستخبارات وأذرعهم الإعلامية، اليسارية منها تحديداً، وامتداداتهم "البزنسية" من جهةٍ أخرى. وهناك الكثير من الإعلاميين الذي سيسرهم الحصول من مصادرهم على تسريبات أو معلومات تضر صورة ترامب وتخصيص أوقات برامجهم وتحليلاتهم لزعزعة ثقة الرأي العام به; وقد ظهر ذلك جلياً في الضجة التي تثار بشأن الطريقة التي يستخدم فيها ترامب حسابه على موقع "تويتر". وقد يقود ذلك إلى انشغال الإدارة الجديدة في مناوشات جانبية، علنية ومن تحت الطاولة، بين أركانها وموظفيها بشكلٍ أكبر من السابق الذي عُرف فيه التنافس "المدرسي" بين وزارتي الخارجية والدفاع. وقد يضطر طرفا الصراع في نهاية المطاف إلى الأخذ باستراتيجية ماتيس نفسه الذي قال مرة: "كن مهنياً، ولكن لتكن لديك خطة لتقتل جميع من يعترضك".
** صحافي سوري
التعليقات