نحن الآن على اعتاب عيد الفصح المجيد. حول المجرمون هذا العيد الى يوم دموي حزين عندما فجر الجناة التكفيريون كنيستين للمسيحيين الاقباط في مصر. الجريمة وقعت في يوم احد الشعانين الذي يسبق عيد الفصح باسبوع. لوث الجناة هذا اليوم وذلك بتفجير اجسادهم النتنة وادمغتهم المريضة بين المجتمعين الابرياء في الكنيستين.
هذه الجريمة البشعة جعلتني اعود بالذاكرة الى بلدتي في خمسينيات القرن الماضي. بلدتي اسمها الكردي تربسبسي وبالعربية وفي دوائر الدولة كانت تسمى قبور البيض وهي ترجمة حرفية للاسم الكردي.
البلدة تقع على بعد 30 كم شرق مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة. جاء البعثيون وبدلوا اسمها الى القحطانية.
في تلك البلدة كان يعيش فيها المسيحي والمسلم والازيدي والارمني واليهودي في سلام ووئام ومحبة واحترام.
تذكرت في بلدتي الخال حنا الآشوري.
كل اهل البلدة كانوا ينادونه بـ خالو حنا بشواربه المفتولة وعيونه الزرقاء وبراءة وجهه البشوش ودائم البسمة. كان يتكلم بلغة كردية وعربية مكسرة ولم يكن يجيد الا اللغة الآشورية والسريانية بالرغم من العقود الطويلة من العشرة والاقامة في البلدة.
زوجة خالو حنا توفت مبكرا و تركت وراءها طفلين صغيرين بطرس ودانيال.
خالو حنا لم يتزوج بل منح كل وقته و عمره في رعاية الطفلين ابا واما في آن.
بطرس و هو الابن الاكبركان يسمى ابو قريو هاجر فيما بعد الى استراليا قبل عشر سنوات تقريبا بينمىا الطفل الاصغر دانيال هاجر مبكرا الى لبنان وهو في سن المراهقة وعاش هناك ولم يعد.
كان الكبار يقصون علينا في ليالي الشتاء القارصة حكايات وحوادث البلدة. واحدة من تلك الحوادث كانت تدور حول هجوم الخنازير البرية على البلدة. الخنازير لم تكن موجودة في المنطقة بل كانت تعيش في جبال باكوك الواقعة على الطرف الثاني من الحدود مع تركيا.
الخنازيرهاجمت القرية مرتين في الاربعينات او خمسينات القرن الماضي وذلك هربا من البرد القارص والرياح العاتية والثلوج باحثة عن مأوى. الخنازير البرية شرسة و تهاجم الانسان وقد تقتله. تفاجأ اهل البلدة بتلك الخنازير الهائجة في شوارع وازقة البلدة وصولا الى مركزها بين الحوانيت في السوق الصغيرة.
الجميع هرب للاختباء داخل البيوت خوفا من شر تلك الحيونات الشرسة واصبحت البلدة في حالة منع التجول التي الفناها فيما بعد كل انقلاب عسكري فيما بعد.
الذين كانو يملكون السلاح نزلوا الى الشوارع و تم التخلص من الخنازير باطلاق النار عليها.

لماذا هذه القصة؟
الخنزير نجس وحرام عند المسلمين ولا يجوز حتى لمسه. ولكن اهل البلدة من المسلمين كانوا يسلمون تلك الخنازير التي قتلوها الى السكان المسيحيين للاستفادة من لحمه. الدين المسيحي لا يحرم لحم الخنزير.
خالو حنا كان ماهرا بذبح الخنازير وسلخها وتقطيعها لتكون جاهزة للشوي او الطبخ ويستفيد منها هو و بقية مسيحيي البلدة.
تصوروا كيف ان المسلم يصطاد الخنازير ويهديها الى جاره المسيحي. هل يصدق الجيل الجديد تلك الحقيقة؟
لم يكفر المسلم جاره المسيحي بالضلال والزندقة والالحاد بسبب معتقداته الدينية ولم يهدده بالمقاطعة او قطع الرأس لانه تناول لحم الخنزير.
هكذا كانت العلاقات بين الناس في مجتمعاتنا البسيطة في السابق.
الكبار الذين قرأوا علينا هذه الحادثة لم يكن هدفهم اظهار التسامح بين الاديان بل جاءت كأية حادثة غريبة ونادرة وهو تعرض البلدة لهجوم الخنازير الذي كان امرا استثنائيا في منطقتنا.
جاء فيروس السياسة والانقلابات العسكرية والاحزاب الايديولوجية والاسلام السياسي التي انتجت لنا التكفيريين والجهاديين والانتحاريين وانهارت المجتمعات و تبدلت واصابها التفسخ واوصلتنا الى هذا الزمن الرديء وصولا الى تفجير بيوت العبادة والتي تنشر الايمان وحب الخير وروح التسامح. 
طيب الله ثراك خالو حنا.
تمنياتي للاخوة المسيحيين في قبورالبيض تربسبي والعالم بعيد الفصح المجيد والتعازي الى ضحايا الارهاب من الاخوة الاقباط في مصر.


كاتب كردي
[email protected]