يتهم الكثير من السياسيين والمحللين من الدول الغربية ومن الشرق الأوسط وغيرها بأن الإرهاب الذي يضرب الشرق والغرب أصله كامن وأصيل في الفكر الإسلامي الذي يستمد شرعيته من قراءة حرفية للتراث والنص الديني بالخصوص لينعكس بخطاب متشدد يستقطب فئة الشباب ويحولهم إلى قنابل موقوتة. ترتب على ذلك الدعوات المتكررة لتجديد الخطاب الديني، محاولة منع دخول مواطنين من دول مسلمة معينة للولايات المتحدة، انتشار ظاهرة الإسلامفوبيا، وليس آخرها التوتر بين الدول حول أسباب التطرف الإسلامي. السؤال هو، إلى أي حد شارك التراث الإسلامي والنص الديني في صناعة التطرف الإسلامي ومن بعده الإرهاب؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من طرح سؤال آخر فرعي وهو، إذا كانت قراءة التراث والنص الديني بطريقة حرفية والتي تنتهي بتكفير الآخر ومن ثم إلغائه فكريا أوماديا أو على الأقل عدم الإعتراف به، فهل هذا هو السبب الوحيد المسؤول عن ظهور التيارات الأصولية والسلفية الجهادية التكفيرية والتي تؤمن بالعنف وتمارسه في عملية تغيير الواقع أم أن هناك أسباب موضوعية أخرى كالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية؟ فإذا كان الجواب نعم وأن تلك التيارات الأصولية التي تستمد تبريراتها في ممارسة العنف من النصوص الدينية الثابتة والمختلف عليها هي السبب الوحيد فعلينا فهم بعض الأمور أولها لماذا ظهرت تلك التيارات في الثلاثين سنة الأخيرة في المشهد السياسي مع أن النصوص الدينية عمرها أكثر من ألف سنة ولم تستثمر بهذه الطريقة لممارسة العنف؟ ولماذا لم تستخدم باقي الفرق والطوائف نفس النصوص في ممارسة العنف؟ مع أن هناك أكثر من مليار مسلم يتفقون على مجمل تلك النصوص نفسها. نعم، يوجد في التاريخ شواهد عديدة على ظهور فرق إسلامية عديدة مارست العنف في أوقات كثيرة كالخوارج والقرامطة والوهابية وبشكل رسمي من قبل الأمويين والعباسيين وحتى العثمانيين، لكن الشواهد الأكثر دلالة هي أن تلك فرق إسلامية تظهر وتختفي لظروف مختلفة وليس كل المسلمين من يمارسون العنف وهم الذين يؤمنون بمجمل ماورد بتلك النصوص ولايختلفون عليها. إذن، لابد من التسليم بأن هناك عوامل موضوعية أخرى مختلفة تشتبك مع قراءة النص الديني الحرفية وهي مسؤولة أيضا عن ظاهرة العنف والإرهاب. ولابد من التسليم أيضا أن من الصعوبة بمكان تفكيك تلك العوامل وتحويلها إلى نسب رياضية بالقول أن نسبة العامل الديني كذا والاقتصادي كذا والسياسي كذا والاجتماعي كذا خطأ كبير لآنها تختلف باختلاف الزمان والمكان.
يقول الباحث أولفر روا في مقال له نشر مؤخرا في صحيفة الجارديان بأن لاوجود هناك للتطرف الإسلامي بل أسلمة التطرف فبدا إسلاميا. لقد وصل الباحث روا لتلك النتيجة بدراسة موضوعية حلل بها السيرة الذاتية والخطابات لأكثر من مئة من المنخرطين في العمل الجهادي في أوربا من جهاديين وإنتحاريين وغيرهم وخلص للآتي. أنهم من الجيل الثاني من المهاجرين، مندمجين بشكل كبير في مجتمعاتهم في بداية حياتهم، في أوقات معينة لديهم جرائم صغيرة، الغالبية العظمى لديهم سوابق في السكر مع السرعة العالية في قيادة السيارات، تشددوا في السجون، حمل الاسلحة في مواجهة الشرطة، مع التطرف هم في ولادة جديدة بعد حياة بعيدة كل البعد عن الدين كشرب الكحول، التردد على الملاهي، التدخين والخروج ومع فتيات، متورطون في تعاطي المخدرات أو بيعها، منخرطون في أعمال عنف، اعادة النظر في حياتهم الدينية بشكل سريع حيث أن غالبيتهم نفذ عمليات إرهابية بعد اشهر فقط من التدين، تشددوا من قبل اخوانهم أو اصدقاء الطفولة أو الاقرباء في السجنون، قادمون من ملاجئ للأيتام أو من عوائل مفككة، متمردون على المجتمع وعلى عوائلهم، منغمسون في الحياة الشبابية على الطريقة الغربية في الملبس والتصرفات كلبس جاكيت مع غطاء الرأس و طاقية لاعبي البيسبول ويستمعون لموسيقى الراب. لم ينخرطوا في أعمال خيرية ولم يتشددوا في المساجد السلفية التقليدية عدا القليل في مساجد أصلا هي متشددة في بريطانيا أذ أن تشددهم تم من خلال نظراء ممن هم في السجن أو خارجه بعد الخروج منه والتعرف على الشبكة. لم ينخرط أحدهم مع الاخوان المسلمين أو أي نشاط دعوي، لم ينخرطوا في منظمات تدعم القضية الفلسطينية ولم يتفاعلوا مع حركات التحرر من الاستعمار، لديهم معرفة سطحية بالدين. باختصار هم متمردون على مجتمعاتهم وحتى عوائلهم وحسساسون بما يتعلق بالعادات والتقاليد الخاصة بهم.
الباحث روا يريد أن يقول أن التشدد الديني هو إطار فقط لفئة تشعر بالتهميش إذ أن العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسة هي أقوى من نظيرتها الدينية لتحول تلك الفئة من الشباب إلى قنابل موقوتة في تنظيم غايته العنف بحد ذاته وليس وسيلة للوصول لهدف سياسي. إذن كيف يمكن فهم تلك العوامل الأخرى عدا العامل الايدلوجي؟ لابد من الإشارة أن الباحث روا ركز على الجهاديين في أوربا فربما الوضع يختلف في الشرق الأوسط حيث أن الظروف الموضوعية تحتلف بشكل كبير فهي بحاجة لفهم مختلف. من أجل ذلك، لابد من نقل الفهم لمستوى آخر من التحليل.
في كتابه العميق (العنف) للفيلسوف الجيكي جيجيك، يصنف جيجيك العنف إلى صنفين جوهريين وهما العنف الظاهر والعنف الكامن. العنف الـظاهر إنعكاس طبيعي للعنف الكامن، فوراء كل عنف ظاهر يوجد عنف كامن نتقبله وكأن وجوده أمر طبيعي. الظاهر هو مانراه كل يوم في حياتنا اليومية وما نشاهدة في التلفزيون وفي الأخبار من صراعات وحروب وغيرها. في العنف الظاهر يمكن معرفة الجاني والضحية ويوجد هناك دائما من يلام على فعله. ويدرج جيجيك الأصولية الإسلامية ضمن هذا الإطار من العنف. أما العنف الكامن فهو عنف راسخ في البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية، أي عنف بنيوي. فهو يشبهه المادة السوداء أو المظلمة التي لاتبعث ولاتمتص الضوء والتي تشكلأكثر من سبعين بالمئة من كتلة الكون لكن لا أحد يستطيع أن يراها أو يرصدها في مختبر حتى وقت قريب جدا. فعلى المستوى العالمي يذهب جيجك بأن العنف كامن في طبيعة المنظومة الرأسمالية وفي الأفكار الليبرالية الجديدة. أما على المستوى المحلي فهو كامن في ثقافتنا الأبوية والذكورية وفي قوانينا وفي طبيعة التقسيمات الأجتماعية والسياسية. مايميز هذا العنف أنه يكمن بالمسلمات اليومية التي لانناقشها أو لانجد الوقت لنناقشها وفيها نحن الجناة ونحن الضحايا حين نعيد أنتاج تلك النظم والانساق البنيوية بلاتفكير أو تردد لعجزنا أو لارتباطها بمنظومة معقدة من المصالح المتبادلة حيث المال والسلطة والمعرفة والجنس والرموز الثقافية والدينية وغيرها. في العنف الكامن نحن الممثلون ونحن المتفرجون في وقت واحد. جيجك يبسط ذلك في قصة بأن هناك رجلين ثملين يشاهدان مسرحية، حين أراد أحدهما التبول ذهب للحمام فوجده مغلقا فشاهد نبتة كبيرة قرب ستار فتبول هناك، وحين عاد قال له صاحبه أين كنت؟ لقد فاتك مشهد رهيب حين دخل أحدهم وتبول على النبتة في وسط المسرحية. في تلك القصة، نحن نضحك على أنفسنا ونبكي على أنفسنا حينما نكون ضحايا وجناة في نفس الوقت بإعادة أنتاج العنف في سلوكياتنا.
أذن، مانراه من عنف سببه التطرف الإسلامي هو رأس جبل الجليد، أما ميرزح تحت الماء فهو العنف الكامن في منظومتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. الدين هو أطار فقط لأزمات نعيشها منذ عقود تبعد أنظارنا عنها الحكومات التي ترمي الكرة في ملعب الدين فقط وعلينا أن نتقبل الفقر والجوع والتهميش والاحتقار على أنه شيئ طبيعي وعادي جدا لأنه قدرنا وليس بالإمكان أفضل مما كان. لايكاد يخلو بلد في منطقة الشرق الأوسط وليس فيه تهميش سياسي للأقليات الدينية والإثنية والعرقية، بل ويشمل التهميش النساء وفئة الشباب التي عبرت عن نفسها في ثورات سلمية جوبهت بقمع شديد وثورة مضادة تمولها دول ذات نفوذ في المنطقة. وعلى إثر ذلك بقيت القوى المحافظة من عسكر وقوى دينية ورجال أعمال ونخب ثقافية فاسدة في مكانها الطبيعي لإدارة شؤون العباد بمساعدة قوى عالمية وإقليمية. أما من الناحية الإجتماعية فلازالت مجتمعاتنا التقليدية تدفع ثمن عدم وجود خطط تنموية تواكب التقدم الحاصل في كل شيئ والذي انتج نسبة عالية من البطالة وأزمات السكن وغيرها مما يولد مشاكل اجتماعية خطيرة. أما من الناحية الاقتصادية فلازالت هناك فئات قليلة من النخب والعوائل تتحكم بثروات العباد والتي تعيق أي تطور يحتاجه المجتمع. وأخيرا، من الناحية الثقافية حيث يقع المواطن الشرق أوسطي بين مطرقة العادات والتقاليد والنطام الذكوري والأبوي الذي لايواكب العصر والذي لايتطور لأن تطوره يقوض مراكز قوى كبيرة يعتمد عليه اصحاب السلطة وبالخصوص اصحاب الثورة المضادة، وبين سندان الدين الذي لم يتطور كباقي المنظومات التي تحتاج أن تواكب العصر. فلازلنا نعيش في التاريخ ونستمد أدوات عصرنا من التراث ونفخر باجترار الماضي حين نسمد هويتنا الفردية والجمعية منه لتبدو الصورة غاية بالفجاجة حين تصطدم بتطورات العصر وبالأفكار الحديثة.
نعم، لاينكر أحد بأن الأيدلوجية التكفيرية سبب من أسباب التطرف الإسلامي والمسؤول بشكل كبير عن العنف والإرهاب في المنطقة والعالم وهي بحاجة لوقفة جادة لإعادة قراءة ذلك التراث من جديد. لكن، وفي المقابل، تلك ليست هي كل القصة، القصة التي لايتحدث عنها أحد ولاتريد السلطات الحاكمة في المنطقة مناقشتها فتحول الأنظار تجاه التطرف الإسلامي فقط. أن مانعيشه من عنف سببه الرئيس هو ضيق الأفق والمستقبل المجهول الذي ينتظر اجيال بأكملها مع وجود دكتاتوريات تستمد شرعيتها من تضخيم الخطر لتبرير بقائها في السلطة، أغلاق المجال العام ومحاولة خنق كل متنفس للتعبير عن الرأي المخالف. ليس الفكر الإسلامي المنحرف وحده مسؤول عن العف، فهناك ديانات أخرى تمارس العنف كالبوذيين في بورما وجيش الرب في اوغندا والبراهما في الهند. كل ذلك هو تأطير لمشاكل موضوعية لايود أحد الإشارة إليها لأنها تمس السلطة ونفوذ دول كبيرة في المنطقة والعالم حيث شاهد العالم كيف نشأت تلك التيارات المتطرفة ومن يمولوها ومن يفسح لها المجال للعمل ومن يستخدمها في رسم خرائط الشرق الأوسط ومن يغذيها لتبقى سوق السلاح رائجة حيث يستطيع الفرد في بلد مثل أمريكا أن يغير هاتفه الخلوي أو سيارته لموديل أحدث بينما يدفع الثمن البسطاء في تفجيرات إرهابية تحصد الأخضر واليابس.
التعليقات