الكلام المتدفّق من قلوب مُنبسطة سَرّها التحلّق حول مائدة الإفطار، الطعام الذي وقع عليه الإختيار، أشبه بمكافأة المنتصر على إنجاز ما، قرقعة الصحون تمتزج بـضحكات الأطفال، لمّة العائلة تضفي على أجواء اللقاء حميميّةً مُغشّاة بفيض من حنين وذكريات.
في الشارع فوانيسٌ وزينة وإزدهارُ بيعٍ وشراء ومسلسلات وإعلانات وأشياء أخرى، وفي النفوس خَلَجات تلبي نداء الروح، إحياءٌ لشعائر،كرم،عطاء، تكافل، تزاورٌ وصفاء إنساني.
لطالما كان رمضان على مر التاريخ محطةً يَمتحنُ فيها الإنسان جوهره وفرصةً لتأكيد المعاني السامية التي تجمع بين البشر، هو بكل حال محاولة مُتجددة لبلوغ الأعلى.
لكن، هل نجح المسلمون في ترجمة روحيّة هذا الشهر في السياسة ونهوض المجتمع، فيما هو أبعد من رومانسية اللحظة العابرة؟!
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) أحد شعراء المهجر، اللبناني المسيحي الغير متعصب لدين أو طائفة، عاش عمراً مديداً مُقدّما حب الوطن على ما عداه، وقف يوماً في حفل لعيد الفطر أحيَته الجمعية الخيرية الإسلامية في إسطنبول سنة 1933 م مُنشداً:
صياماً إلى أن يُفطِر السيّف بالدم، وصمْتاً إلى أن يصدح الحق يا فمي
أَفِطرٌ وأحرار الحمى في مجاعـة؟، وعيدٌ وأبطال الجهــاد بمأتـم؟
بلادك قدِّمها على كـلِّ ملَّـة، ومن أجلها أَفطِر ومن أجلها صُمِ!
فقد مَـزَّقت هذي المذاهب شملنا، وقد حطمتنا بين نابٍ ومنسمِ.
اللافت أن العناوين التي طرحها الشاعر القروي مطلع القرن الماضي لا زالت هي ذاتها الإشكاليات الراهنة العصيّة على الحل، ما يعني أن مجتمعاتنا ترتبك وتضطرب وفي أفضل الأحوال تسير بخطى سُلحفاتيّة كلّما تعلّق الأمر بالإجابة على أسئلتها المصيريّة.
الصوم أو السيف؟ نحن في معترك التجارب، وأُولى معالم الإدراك تدفع بإتجاه طرح جديد، فقدت السيوف _ بما هي رمز لسلاح وعنف_ من جدواها، صارت رمزاً للإرهاب، إنحصرت في كونها أداة قتل وفتنة، وحوّلتها الأحداث المتعاقبة إلى خنجر في خاصرتنا.
الصوم أصدق إنباءً، هو سلاح سلميّ إنساني فعّال، تحدٍ ونضال، نجح فيه الأسرى الفلسطينيين _بعد إضراب إستمر لأربعين يوماً _ في تحقيق أهدافهم وتحسين شروط إعتقالهم، قبلهم كان نيلسون مانديلا الذي لم يُسلّح ميليشيات لتحرير جنوب أفريقيا بل ناهض الإحتلال البريطاني بالوسائل السلميّة حتى حقّق الإستقلال وكذلك فعل المهاتما غاندي في الهند ويستمر الدالاي لاما زعيم "التيبت" في نضاله السلمي ضد الصين.
الصوم غلبةُ الروح على الغرائز، غلبة العقل على العضلات، وأفضل ما يمكن القيام به في زمن الصوم هو النهوض بموقف إسلامي جامع وصريح لا لبس فيه ولا إنفصام إتجاه جرائم الإرهاب المرتكبة ضد الآمنين بإسم الدين، فمن المُهين بحق كل مسلم إستمرار إرتكاب مثل هذه الجرائم الإرهابية بحق الأبرياء يومياً!.
معلوم أنّ الصراعات لا تخاض بالأمنيات الطوباوية ولا بدّ من توازن قوى إلاّ أن مَهمّة إحتكار وإستخدام القوة هي من مهمّات الدّولة حصراً دون الميليشيا أو التنظيم أو كل من هبّ ودَب.
العالم كله يكافح الإرهاب بقوانين وإجراءات صارمة والمسلمون جزء من هذا العالم بل وأكثر المتضررين من هذه الأفعال الشاذه، والتي يمكن دحرها، فهي ليست قدراً.
منذ ما قبل إغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لم يكن فقه التكفير وتيّار التشدد الديني بهذا الحضور الطاغي في المجتمعات كما هو حاصل الآن، ما الذي يمنع من العمل على إستئناف الحضارة وعودة التنوير الذي كان أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعه الطهطاوي وآخرين؟
يحقق الصوم أهدافه العظمى عند تحوّل صفات التعاضد والشعور بالغير من إطارها الزمني المؤقت إلى صيرورة دائمة في وعينا ويوميات سلوكنا الإنساني، فيكون الإنسان أخ الإنسان أينما كان دون التمايز بلون أو جنس أو عرق أو دين.
" أبو نواس " الشاعر العباسي الأثير كان إذا صام رمضان لا يُطيق صبراً على تلك الصفراء التي لا تنزل الأحزان ساحتها، ولكل هواه والناس طِباع.
رمضان كريم.
كاتب وصحافي لبناني
[email protected]
التعليقات