باتت داعش ـ الدولة الإسلامية في العراق والشام ــ اليوم أشهر من نار على علم فلم يعد هناك شخص على وجه الأرض لم يسمع عن داعش، سلباً أو إيجاباً، لكنها مازالت في أذهان الرأي العام الغربي تمثل لغزاً يصعب إن لم نقل يستحيل فهمه أو إدراك وإستيعاب ماهيته وسبر أغواره وكشف أسراره ومعرفة نواياه، المعلنة والخفية، وقدراته الحقيقية. من البديهي القول أن دوائر المخابرات الغربية ومراكز القرار في العالم الغربي تعرف الكثير عن هذا المسخ الذي خلقوه أو ساهموا في خلقه عن قصد وتعمد لحسابات بعيدة المدى لكنه يبدو اليوم متمرداً على أسياده وخالقيه ويهددهم بوجودهم ونمط حياتهم ومنظومتهم الأخلاقية والاجتماعية التي يريد نسفها من الجذور كما يدعون في حربهم الإعلامية ضده وتسويق خطورته لدى الرأي العام المصدوم من درجة العنف والوحشية والقسوة التي أبداها هذا المسخ المتوحش المشهور باسم داعش ــ أي الدولة الإسلامية في العراق والشام ــ خاصة بعد إعلانه تأسيس دولة الخلافة التي تتسم بالخطورة وتنم عنها ذكريات أليمة عانى منها الغرب وتلقى منها درساً أليماً، إبان سطوع مجد الخلافة الإسلامية الأولى التي انتهت عملياً على يد كمال أتاتورك في بدايات القرن العشرين، ويخشى اليوم حدوث صدام الحضارات الذي تنبأ به صاموئيل هنتنغتون قبل عقد ونيف من الزمن، أي تصادم الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية. لقد بنى الغرب الفخ الداعشي ووقع فيه ويحاول اليوم، عبر كواليس أو تحالفات عسكرية دولية، الخروج من هذا الفخ والقضاء على وجوده بكل الطرق قبل فوات الأوان. فالغرب وقادته وشعوبه يعتقدون بأن دولة الخلافة المزعومة الجديدة تريد السيطرة على العالم وفرض النظام الإسلامي بالقوة وتطبيق شريعة الله كما نص عليها في كتاب المسلمين القرآن وسنة نبيهم محمد، وكما وردت في أدبياتهم الحديثة. وسنحاول في هذه العجالة التحليلية تقديم الوجه الحقيقي لداعش وما أحاط بظهورها من ظروف وحسابات ومناورات في العلن وفي الخفاء وفي كواليس السياسة والجيوستراتيجيا.
الصعود المدوي لداعش:
أحدث إنبثاق داعش المفاجيء والمدوي، بالنسبة للكثير من الناس، حالة من الاندهاش والذهول والرهبة، سواء على المسرح العالمي أو على صعيد السياسة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي. فللمرة الأولى يكشف تنظيم إرهابي سلفي وبوضوح عن هدفه في إحتلال أراضي ومناطق جغرافية والسيطرة عليها بغية تأسيس دولة إسلامية فوقها كخطوة أولى نحو طموحه الأشمل ألا وهو إعادة أمجاد إمبراطورية الخلافة الإسلامية كما كانت عليه إبان الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية. ولقد أعتقد قادة هذا التنظيم الإرهابي التكفيري بأن مقومات هذه الدولة متوفرة وشروط النجاح جاهزة وبمليء اليد. في الحقيقة، كان مشروع إقامة الدولة الإسلامية يداعب مخيلة السلفيين الحركيين منذ سنوات وتبلور بين عامي 2012 و 2013 على وجه التحديد وكانت الخطوة العملية الأولى نحو تحقيق هذا الهدف قد تمت في يناير 2014 وذلك باحتلال مدينة الفلوجة العراقية التي تقع غرب محافظة الأنبار ذات الأغلبية السنية. وتبعد نحو 60 كلم غرب العاصمة العراقية بغداد، وسلخت تماماً من سلطة الحكومة المركزية في بغداد التي بدت عاجزة عن استردادها. ويمكننا القول أن احتلال هذه المدينة للمرة الثانية، ــ كانت المرة الأولى في عهد حكومة الدكتور أياد علاوي وبوجود قوات الاحتلال الأمريكي في العراق ـــ، قد شكل حالة من القطيعة الرمزية والنفسية، بعد أن عاشت المدينة لحظات صعبة وقاسية سنة 2004 عندما اندلعت فيها ما عرف بانتفاضة العشائر السنية الرئيسية في المدينة ضد الاحتلال الأمريكي كما كان معلناً آنذاك. وبعد قمع التمرد بالقوة والحديد والنار على يد قوات الاحتلال والقوات العراقية النظامية، مرت عشر سنوات من الهدوء النسبي بعد إخضاع هذه المدينة المتمردة والمتطرفة وإعادتها إلى أحضان الدولة المركزية الإتحادية. من هنا فإن عملية التمرد الثانية قد رسمت ملامح استحالة إدماج قسم كبير من المكون السني العراقي في نطاق الإطار الفيدرالي للمجتمع العراقي الذي يعيش في حالة احتقان مزمن منذ إطاحة النظام الصدامي على يد القوات الأمريكية سنة 2003. دب شعور من العجز والشلل من جانب الحكومة العراقي والقوات الأمريكية المساندة لها أمام جرأة هذا التحدي واحتلال مدينة بأكملها هي وسكانها وأخذهم رهائن\ن ولكن في واقع الأمر فإن جزء كبير منهم كانوا مرحبين ومساندين لهذا الاحتلال الداعشي، وحاضنة مؤهلة لدعم وإسناد هذه الشلة من المقاتلين الصارمين والعازمين على فرض قانونهم الخاص على المدينة. تصرف الجميع على شاكلة سياسة النعامة التي تدفن رأسها بالتراب معتقدة أن الخطر قد ابتعد عنها، وصارت وسائل الإعلام تقلل من شأن مثل هذا الاحتلال لمدينة على يد عصابات مسلحة إرهابية وأن تأثيرها سيظل محدوداً ومحصوراً في هذه المدينة التي لا أهمية لها في حين أنها تقع على أبواب العاصمة بغداد والحال أن سيناريو احتلال المدينة كان بمثابة البروفة، أي تمرين على أرض الواقع لحالات مماثلة في مدن عراقية أخرى ستنفذ لاحقاً حيث نجحت داعش فيما بعد وبسرعة قياسية احتلال حوالي ثلث مساحة العراق كتكريت والرمادي وديالى وبالطبع الموصل. وبات من الضروري أن نفهم كيف قيض لمجموعة مسلحة صغيرة وبأسلحة خفيفة أن تهزم جيشاً نظامياً مدججاً بالسلاح الثقيل ومدرب على يد القوات الأمريكية المحتلة. والحال إن نجاح الدولة الإسلامية في فرض نفسها كأمر واقع لم يكن عسكرياً فحسب، فقد بدت في عيون الكثيرين بمثابة الطليعة المسلحة القادرة على دحر أية قوة عسكرية مناوئة أو معادية لها سواء أكانت محلية عراقية أو سورية أو أجنبية، أمريكية وأوروبية. وهنا حدث التمايز الجوهري بين داعش وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أو الدولة الإسلامية في العراق التي أعلنها الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي وكانت تابعة لتنظيم القاعدة الدولي بزعامة أسامة بن لادن الذي قدم له الزرقاوي البيعة وإن كانت شكلية. عملت داعش على إرضاء السكان المحليين والوجهاء ورؤساء العشائر في أية مدينة يحتلها تنظيم الدولة الإسلامية وذلك بتسليم إدارة شؤون المدن لهم بشرط قبولهم تقديم البيعة للدولة الإسلامية وتطبيق قوانينها المجتمعية المبنية على التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية كما يفهموها هم، وهكذا استقطبوا الكثير من أبناء تلك المدن المحتلة من قبل داعش وضمهم للتشكيلات العسكرية المسلحة للتنظيم وتأمين الدعم اللوجيستي والتمويني من قبل السكان الذين استخدموا أيضاً كدروع بشرية لحماية مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية. وتكرر ذات السيناريو في المدن السورية المحتلة مثل الرقة ودير الزور الواقعتين في منطقة الجزيرة في وادي الفرات.
كان أغلب سكان المنطقة الغربية في العراق من السنة بمختلف مدارسهم الفقهية الأربعة، يعتبرون الجيش العراقي المتواجد في مناطقهم بمثابة جيش احتلال وليس جيشاً وطنياً وذلك بسبب كونه تابع للدولة التي يقودها الشيعة وبالتالي فهو أداة قمعية مسلطة على رقاب أهل السنة كما كانوا وما زالوا يشعرون بأنهم مغبونون ويعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية خاصة في فترة ولايتي السيد نوري المالكي فلقد اضمحل لديهم الشعور بالانتماء الوطني وتعلقوا بأهداب الانتماء الطائفي والمذهبي خاصة بعد حصول عمليات إعدام متعددة ضد أبناء السنة بتهمة تعاونهم مع الإرهابيين في القاعدة ومن ثم مع داعش وتعرضهم لسوء تصرف وتعسف رئيس البوليس العراقي في المدينة العقيد مهدي الغراوي الذي كان متهماً بارتكاب الاختلاسات المالية والاعتقالات العشوائية والكثير من عمليات التصفية الجسدية ضد سنة مدن المنطقة الغربية كالفلوجة وتكريت والرمادي والموصل وديالى وغيرها من مدن المحافظات الغربية والشمالية السنية لذلك وجدوا في مقاتلي التنظيم الإرهابي داعش صورة الجيش المحرر لهم من سلطة وتعسف الجيش الشيعي والحامي لهويتهم وخصوصيتهم السنية وتخليصهم من عذابات وسوء معاملة ضباط الجيش العراقي لا سيما في السيطرات العسكرية، في الشوارع والساحات، حيث شعر أبناء السنة أنهم كلهم مشتبه بهم كعناصر إرهابية كامنة لا لشيء إلا لأنهم سنة مما حول حياتهم إلى جحيم ومعاناة دائمة.
قام تنظيم داعش الإرهابي بتصفية بعض الوجهاء ورؤساء العشائر ممن انضوى تحت جناح ما سمي بالصحوات وقاتلوا تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وكذلك بعض النخبة من السياسيين السنة الذي شاركوا في العملية السياسية، وأعلنوا أنفسهم ممثلين عن سنة العراق في حين لم ينتخبهم أحد أو يفوضهم للتحدث باسم السنة، لذلك طاردتهم داعش لمعاقبتهم على خيانتهم لأبناء مذهبهم وتواطئهم مع السلطة المركزية الرافضية المنحرفة والخارجة عن الدين، مقابل المناصب والمراكز والأموال والامتيازات، من أجل تقديم أمثلة حية وملموسة على صرامة داعش وعزمها على إنزال العقاب بمنتهى القسوة والوحشية والإذلال في من لايطيعها أو يتعامل مع أعدائها. وقامت بمحاسبة ومحاربة الفساد الإداري والمالي في بداية حكمها للمدن المحتلة وقامت ميليشيات داعش المسلحة باحتلال قصر أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب السابق ونائب رئيس الجمهوري الحالي ومصادرة أمواله وسبائك الذهب التي كان يحتفظ بها في قصره، وكذلك ملاحقة شقيقه محافظ الموصول السابق أثيل النجيفي الذي ولى هارباً من بطش داعش بعد أن سعى لإدخالها إلى المنطقة لإحداث توازن عسكري مسلح مع الميليشيات الشيعية المسلحة المنتشرة في جميع أنحاء العراق. كما نسجت داعش علاقات سرية مع شخصيات عراقية سنية من داخل العملية السياسية مثل نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي ووزير المالية السابق رافع العيساوي الملاحقين قضائياً وهناك مذكرات إلقاء قبض عليهما لتقديمهما للمحاكمة. وبذلك نسفت كل إمكانية للمصالحة الحقيقية بين المكون السني والمكون الشيعي العراقيين وتعميق الهوة بينهما وتنامي مشاعر الجفوة والحذر والشك والحقد الطائفي وتفاقمها على مر السنوات السبعة عشر الماضية.
المنصات والاختراقات والتلاعبات:
كان المناخ النفسي والشعور بالتهميش كافيان لشحن الاحتقان الطائفي السني ضد الأغلبية الشيعية المهيمنة على السلطة منذ عام 2003، يضاف إلى ذلك اندلاع ثورات ما سمي بالربيع العربي في تونس ومصر وسوريا واليمن، الذي حث المكون السني العراقي على تنظيم منصات احتجاج في المحافظات ذات الغالبية السنية على غرار ما حدث في دول عربية أخرى، و رفعت مطالب مشروعة في ظاهرها وبطريقة سلمية كما بدت لوسائل الإعلام بيد أن المطلع على توازنات القوى وما يجري في كواليس السياسة والمجتمع العراقيين، ويتابع من داخل زعامات هذه المنصات، يعلم علم اليقين أن هذه التحركات البريئة في ظاهرها هي خطوات مدروسة نحو تحرك أعمق وأخطر ذو طابع عسكري بدأ منذ العام 2013 على غرار ما حدث في سوريا في 2011 و 2012 حيث بدأ الحراك الشعبي المعارض سلمياً ومدنياً ولكن سرعان ما اختطفته القوى الإسلاموية المسلحة المتشددة والتكفيرية لتخوض حرباً أهلية لا هوادة فيها ضد نظام بشار الأسد وحزب البعث في السلطة مما دفع هذا الأخير إلى اللجوء إلى البطش ووسائل القمع والقسوة المبالغ فيها لردع المعارضين مقدماً نفسه بمثابة السد العلماني ضد طوفان التيار الإرهابي الإسلاموي المتمثل بداعش والقاعدة تحت تسمية جبهة النصرة ومن ثم جبهة تحرير الشام. كانت القاعدة في بلاد الرافدين التي تحولت إلى الدولة الإسلامية في العراق بزعامة مصعب الزرقاوي والتي تحولت فيما بعد إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام ــ داعش ــ بقيادة أبو بكر البغدادي ــ إبراهيم العواد ــ هي التي استثمرت واستغلت منصات الاحتجاج للتحضير للانقضاض على المدن السنية الواحدة تلو الأخرى وإدخال الأسلحة والعناصر المسلحة والمتطوعين الأجانب والعرب إليها عن طريق التهريب، وإبرام الاتفاقيات مع القوى العشائرية المحلية والقوى السياسية المناوئة للعملية السياسية في بغداد كحزب البعث وجماعة النقشبندية برئاسة عزت الدوري وهيئة علماء المسلمين برئاسة حارث الضاري وغيرهم، ولقد لعب هؤلاء جميعاً دوراً حاسماً في تهيئة الأجواء والحاضنة الاجتماعية والشحن النفسي لتقبل احتلال داعش لمدن المنطقة الغربية والشمالية غير الكردية وباتفاق غير معلن مع الحكومة الكردستانية مقابل عدم اجتياح عناصر داعش المسلحين للمناطق الكردية وتعهد القيادة الكردية بعدم زج قوات البيشمركة إلى جانب القوات الحكومية المركزية العربية، وبالطبع بمساعدة وخيانة ضباط كبار في الجيش العراقي الصدامي ممن عادوا إلى الجيش إبان حكومات علاوي والجعفري والمالكي، لكن ولاءاتهم بقيت لحزب البعث ولأحزاب سياسية سنية ولانتماءاتهم العشائرية على حساب مصلحة الوطن. إلى جانب تفشي الفساد والمحسوبية والمنسوبية وانعدام الأمن وانخفاض القدرة الشرائية والصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها سكان تلك المناطق جراء إهمال السلطة المركزية لهم. وهكذا توغلت جحافل داعش إلى الفلوجة أولاً في يناير 2014 وبعدها بسرعة مذهلة لباقي مدن محافظة الأنبار وصلاح الدين والموصل. ولقد لجأت قيادات داعش وعناصرها المسلحة الإرهابية إلى أساليب القمع الوحشية والاعدامات البشعة المصورة بأشرطة الفيديو لكي تبث على القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعية لترهب المعارضين لوجودها وحاولت في نفس الوقت إعادة الخدمات العامة وفرض حالة من الأمن المجتمعي الأمر الذي كان يفتقده سكان تلك المناطق المنكوبة. كما قامت داعش بالاستيلاء على معدات عسكرية كثيرة ونهبت البنك المركزي في الموصل وقامت بتهريب النفط عبر الأراضي التركية بتغاضي حكومة كردستان والحكومة التركية عن مثل هذه العمليات غير القانونية التي تمثل مصادر لتمويل الإرهاب في العالم وأحد منابعه المالية. وفي غضون أسابيع قليلة نجحت داعش ابتداءاً من حزيران 2014 في السيطرة على أكثر من ثلاثة أرباع المناطق العربية السنية في العراق، مع ما يمثله من ثقل سياسي ورمزي احتلال مدينة كالموصل ثاني كبريات المدن العراقية الرئيسية حيث يصل تعداد سكانها إلى أكثر من مليوني نسمة، والتي أعلن البغدادي منها تأسيس دولة الخلافة وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين كافة وجعلها العاصمة الدينية لدولة الخلافة وذلك في 29 حزيران 2014 من على منبر جامع النوري في الموصل القديمة. هربت القوات العراقية النظامية من المدن دون قتال أو مواجهة وسلمت أسلحتها خوفاً من بطش عناصر داعش بهم وتنفيذاً لأوامر قيادتهم العسكرية العليا، لكن ذلك لم ينجيهم من تعرضهم للمذابح والإبادة كما حصل مع مذبحة سبايكر، وكان عددهم يزيد على الــ 25000 عسكري لكن في الحقيقة كان أكثر من نصفهم " فضائيين" أي غير متواجدين في معسكراتهم ويستلمون رواتبهم التي يدفعون قسم كبير منها لقياداتهم العسكرية، ويقدر عددهم عند اقتحام داعش بــ 10000 عسكري عراقي. كان هذا الوضع الميداني على أرض الواقع، وضعف التواجد العسكري العراقي المركزي، يصب في صالح حكومة كردستان وعلى نحو أدق في صالح الرئيس مسعود برزاني الذي تحالف مع الأتراك لإقامة حالة عالية من التنسيق علماً بأن تركيا تتعاطف مع داعش وترفدها بالمقاتلين عبر أراضيها وتسهل مرور النفط المهرب من قبلها فحكومة آردوغان ذات اتجاه إسلامي وترغب هي الأخرى في إعادة الخلافة الإسلامية وهي طليعة تنظيم الإخوان المسلمين السني الدولي بينما تحالف منافسه الاتحاد الوطني الكردستاني كان مع إيران الشيعية ومع الحكومة المركزية العراقية ذات الأغلبية الشيعية، لإحداث التوازن من أجل المصلحة العليا للشعب الكوردي. لم تستفز الدولة الإسلامية داعش الأكراد ولم تحتل لفترة طويلة مدينة كركوك المتنازع عليها والغنية بالنفط والتي يطالب الأكراد بضمها لإقليم كردستان رسمياً. لكن داعش توغلت في محافظة ديالى لتطويق بغداد تمهيداً للزحف عليها من عدة محاور، عندما يحين الوقت المناسب لذلك. تقبل العرب السنة وجود داعش، راغبين أو مرغمين، لأنهم شعروا بأن مستقبلهم غير واضح وغير مضمون داخل الفيدرالية العراقية الجديدة ذات الأغلبية الشيعية الساحقة والمسلحة على شكل ميليشيات عنيفة متعددة تهيمن على عدد كبير منها إيران وتسيرها وفق خططها واحتياجاتها العسكرية والاستراتيجية والسياسية مقابل تمويلها وتسليحها وتدريبها، وبالتالي فإن مستقبل أهل السنة سيكون أكثر أماناً من ناحية عمقهم الاستراتيجي العربي السني في سوريا والأردن والخليج.
على عكس تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي أتخذ أسلوب العمل السري وعدم التمركز الجغرافي منهجاً وطريقة عمل، اهتم تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي داعش بأسلوب مسك الأرض والعمل علانية انطلاقاً من مناطق جغرافية محددة ومعروفة يحتلها ويبني فيها قواعد ومعسكرات وبنى تحتية لتأسيس دولة قابلة للحياة والتوسع سيفرض شرعيتها واعتراف الآخرين بها إن آجلاً أم عاجلاً بطريقة قسرية أي بالقوة والعنف والإرهاب والإكراه، ويتطور التنظيم من مجرد جماعات إرهابية مسلحة يعرفها البعض بالمجاهدين، كما في تنظيم القاعدة، إلى مجموعات قيادية متدرجة وتراتبية تتقلد مسؤوليات مختلفة على غرار المؤسسات الحاكمة في الدول التقليدية وعلى شكل هرمي يبدأ من قمة السلطة، أي الخليفة، وينزل إلى عامة الناس وبينهم قيادات من الصف الأول والثاني والثالث وهكذا. ليس لدى القاعدة ميزانية ضخمة ومالية مسجلة وموثقة بينما لدى داعش أموال طائلة ومسؤولة إدارة مجتمعات حقيقية ودفع مرتبات للموظفين والإداريين والمقاتلين، الذين هم بمثابة جيش الدولة الإسلامية داعش وأداتها الضاربة والقمعية والحامية لحدود الدولة الإسلامية، وبالطبع لتمويل خوضها للحروب والمواجهات المسلحة، الهجومية والدفاعية على حد سواء. وقد تلقت داعش الدعم المالي من قبل أثرياء متبرعين من دول الخليج باتوا معروفين بالإسم في بعض الدول كالسعودية وقطر والكويت إلى جانب أموال النفط المهرب وتجارة التهريب والأتاوات والضرائب القسرية المفروضة على التجار وأصحاب المهن والزكاة والأموال التي أخذت من بنوك المدن التي احتلتها كالموصل، حيث وجدت داعش في البنك المركزي 313 مليون دولار وربما أكثر، إلى جانب سبائك من الذهب، الخ، وهي أموال كثيرة تصلح لأن تكون ميزانية حقيقية لدولة معترف بها، بل يقال أن الحكومة السورية كانت تشتري النفط من داعش وأن الحكومة العراقية استمرت في دفع رواتب العراقيين الموظفين والمتقاعدين رغم انضمامهم لصفوف داعش. ولدى داعش كذلك، عكس تنظيم القاعدة، كم هائل من الأسلحة المختلفة، الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، وعتاد وذخيرة، غنمتها من جيوش العراق وسوريا الهاربة والمستسلمة، وتمتلك جيش هائل من المتطوعين العرب والأجانب إلى جانب العراقيين والسوريين المتعاونين معها طوعاً أو قسراً، ويعمل في صفوفها كادر عسكري محترف ومدرب سواء من الهاربين من الجيش السوري أو المتدربين في معسكرات أفغانستان والعراق قبل إعلان دولة الخلافة، أو من كوادر وكبار قيادات الجيش الصدامي ومخابراته ومؤسساته الأمنية والمخابراتية الذي انخرطوا في صفوف داعش ليدربوا المتطوعين الجدد على مختلف فنون وتكتيكات القتال ومختلف أنواع المعارك لاسيما حرب عصابات المدن وقيادة المدرعات والعربات المصفحة والدبابات التي غنتمها من معسكرات الجيوش النظامية السورية والعراقية بل وحتى طائرات الهليكوبتر وبعض الطائرات الحربية القديمة التي غنتمها من القاعدة الجوية السورية في دير الزور ما يعني أن داعش تمتلك نواة لجيش نظامي حقيقي و بتدرج قيادي وتنظيمي محكم ومقاتلين محترفين أو شبه محترفين، لا يهابون الموت بل بالعكس يسعون للموت ظناً منهم حسب اعتقادهم أنهم سيكونون شهداء ويذهبون إلى الجنة حيث النبي والصحابة وحور العين والغلمان ينتظرونهم، وأنهار العسل والحليب والسعادة الأبدية المضمونة لهم لأنهم استشهدوا في سبيل الله، وهذا يشكل ورقة رابحة ومؤثرة بيد داعش. بالطبع لم يكن كل سكان الموصل أو الأنبار سلفيين أو جهاديين، لكن أغلبهم كان لامبالياً وممتعضاً من ممارسات الجيش النظامي العراقي وبالتالي فهو مرحباً أكثر منه معادياً لدخول داعش إلى مدنهم واحتلالها، قبل أن يذوقوا مرارة سلوكها وتعسفها، أما الأقليات المذهبية والدينية والعرقية فقد فزعت وغادر معظم أبنائها قبل استفحال الأمور عندما كان الهروب ممكناً رغم المخاطر الجسيمة أما البعض الآخر فقد استسلم لقدره وقتل أو أرغم على تغيير ديانته ومذهبه واعتناق الإسلام رغماً عنه والتعبد بالمذهب السلفي السني التكفيري المتشدد الذي تبنته داعش وبيعت النساء والأطفال السبايا في سوق النخاسة ووزعوا على المقاتلين كعبيد وإناء ونساء متعة من ذات اليمين، كما أرغم وجهاء المدن والأحياء ورؤساء العشائر على التعاون والتنسيق مع الحكام الداعشيين الجدد في تسيير أمور المدن المحتلة في العراق وسوريا، وبعضهم كان متطوعاً ومبادراً لمثل هذه المهمات. لقد أقنعت داعش سكان المدن المحتلة أن النظامين العراقي والسوري طائفيين وغير قابلين للإصلاح وخاضعين للنفوذ الإيراني الشيعي وأن مصالحهم توجد مع داعش والانتماء إليها وحمايتها والدفاع عنها، ولقد صدق الكثيرون مثل هذا الطرح وانخرطوا في صفوف هذا التنظيم الإرهابي المتوحش. وبعد أن استقرت داعش نسبياً وأحكمت نفوذها وسيطرتها العسكرية والإدارية على العديد من المدن والقرى والأقاليم أـو المحافظات العراقية والسورية، بدأت تخوض حرب التوسع الجغرافي وتنظيم الهجمات المباغتة على المناطق المجاورة لحدودها بعد أن كسرت الحدود القائمة بين سوريا والعراق والتي تسمى بحدود سايكس بيكو، منذ حزيران 2014، وأعلنت داعش أن هدفها الأول هو احتلال بغداد عاصمة الخلافة العباسية القديمة بالرغم من أنها غدت ذات غالبية شيعية بعد أن هجرها أو هجر منها العديد من العائلات السنية العريقة بين أعوام 2006 و 2008 ولقد بدأت الخطة في محاصرة العاصمة العراقية بغداد من ثلاث محاور، من الأنبار ومن ديالى ومن الجنوب من منطقة جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل في وسط العراق والتي تبعد عن بغداد حوالي 60 كلم. وفي الخطاب الإعلامي والحرب النفسية التي تفوقت فيها داعش أثارت الرعب في نفوس العراقيين الشيعة عندما أعلن المتحدث الرسمي بإسم داعش عن نية هذه الأخيرة احتلال المدن الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية وكان هذا التحدي السافر قد دق مسمار نهاية داعش في العراق دون أن تعلم فلقد أعلن المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني فتوى الجهاد الكفائي ضد داعش، عندها تقاطر الآلاف من المتطوعين تلبية لنداء السيستاني في ما عرف بالحشد الشعبي الذي انخرطت فيها بالطبع مختلف التشكيلات الميليشياوية الشيعية المسلحة المتواجدة أصلاً على الساحة العراقية مثل بدر وسرايا السلام، جيش المهدي سابقاً، وعصائب أهل الحلق وحزب الله العراقي والنجباء وأبو الفضل العباس ومئات غيرها. ولقد حقق ذلك التحشيد الشعبي منذ نهاية حزيران 2014 نجاحاً في كبح التوسع الداعشي وتقليص طموحات ومخططات دولة الخلافة المزعومة ووضع نهاية لأوهامها في السيطرة على كامل العراق وسوريا ومنهما تنطلق لغزو باقي دول العالمين الإسلامي والعربي. لقد أدرك قادة داعش أن عليهم، في الوقت الحاضر، الإكتفاء بما لديهم من أراضي ومدن وترسيخ سلطتهم عليها وإحكام نفوذهم فيها خاصة وأنها ذات غالبية عربية سنية ساحقة متعاطفة مع الطروحات السلفية. لم تتخل داعش عن مشروعها السياسي فلقد أعلنت في 29 حزيران 2014 عن تأسيس دولة الخلافة في العراق والشام وإلغاء الحدود التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم إرث الإمبراطورية العثمانية المنهارة إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وهي محاول حاذقة من الناحية النفسية للخروج من المأزق مرفوعة الرأس دون أن تعطي مؤشرات ملموسة على هزيمتها والحد من طموحاتها خاصة بعد تراجع الكورد العراقيين والسوريين عن موقف الحياد تجاه داعش في باديء الأمر وخوضهم قتالاً عنيفاً ضدها على الجبهتين العراقي والسورية. وللتعويض عن خسارتها النسبية محلياً وإقليمياً، قررت داعش تدويل الحرب وتحدي الغربيين بعمليات إرهابية نوعية استفزازية لجرهم إلى مواجهة مباشرة معها لكي تبدو في صورة الضحية الإسلامية التي تواجه وحدها العدوان الغربي الكافر بغية كسب تعاطف المسلمين في كل مكان في العالم وتطوع الكثير من شبابهم في صفوفها، وهذا ما حصل بالفعل فلقد تقاطر على سوريا والعرق آلاف الشبان المسلمين المتطوعين ومن بينهم المئات من أصول أوروبية قحة من المعتنقين الجدد للدين الإسلامي للدفاع عن دولة الخلافة الإسلامية الجديدة. باشرت داعش في تقوية دفاعاتها والسيطرة على منافذ الحدود المشتركة بين سوريا والعراق من جهة والأردن والسعودية من جهة أخرى مما كشف عن مدى خطورة هذا التنظيم الإرهابي على التوازن الإقليمي والدولي وتهديده لخطوط الإمدادات بالطاقة فيما لو أحكمت داعش قبضتها على الأردن، وبشكل خاص على دول الخليج وعلى رأسها العربية السعودية، المصدر الأول للطاقة النفطية في العالم، وهذه التحركات والمناورات كانت لها ضرورة جيوستراتيجية بالنسبة لداعش من أجل إفراغها من الأقليات غير السنية ـ مسيحية وأزيدية وشيعية، التي تعيش هناك في محيط وادي نينوى وجبل سنجار لأنها تعتبرها أقليات مشركة وتعبد الشيطان وهرطقية وكافرة، وفي نفس الوقت من شأن هذا السلوك أن يستفز الغرب الذي أعلن نفسه الحامي للأقليات المسيحية في الشرق لجره لمواجهة مباشرة وإيقاعه في الفخ الذي نصبه له تنظيم داعش الإرهابي. لقد نجحت دولة داعش الإسلاموية في إثارة الرأي العام الغربي وإرعابه وللتغطية على محدودية القدرات الدفاعية العسكرية والجيوستراتيجية لداعش في العراق وسوريا خاصة بعد تشكيل قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ودخول روسيا وإيران على خطوط المواجهة مع داعش وانخراط حزب الله اللبناني مباشرة في الحرب ضدها من جهة والميليشيات الشيعية العراقية وقوات حماية الشعب الكردي وقوات سوريا الديموقراطية الكوردية ـ العربية، التي تدعمها أمريكا وبالطبع القوات النظامية العراقية، من جيش وشرطة اتحادية، والقوات النظامية السورية وكلها مدعومة جواً من قبل قوات التحالف الغربية وروسيا ووجود قوات خاصة غربية على الأرض وخبراء روس وإيرانيين وأمريكيين وأوروبيين يساعدون ويوجهون القوات النظامية العراقية والسورية المقاتلة على الأرض ضد مقاتلي داعش الإرهابيين.
يمكننا القول أن داعش بدأت باللعب بالنار التي يمكن أن تحرقها على المدى القصير أو المتوسط من الناحية العسكرية على الأقل. فتدويل المواجهة مع الغرب ودول الجوار الإقليمي لن يصب في صالح دولة داعش الإرهابية حتى لو ادعت شرعية تمثيل المسلمين وكونها وريثة لثورات الشعوب العربية في الربيع العربي الذي أضعف الأنظمة القائمة الموالية أو العميلة للغرب رغم أن العديد من منظمات المجتمع المدني والعشائر والتشكيلات العسكرية المتمردة على أنظمتها في سوريا والعراق وليبيا واليمن حظيت بدعم وتمويل ومساندة وتسليح دول إقليمية مثل تركيا والسعودية وقطر، وما تزال تحظى بمثل هذا الدعم اللوجيتسكي والمالي والتسليحي. لقد تبلورت جبهات المواجهة في المنطقة على النحو التالي: هناك مواجهة إقليمية بين إيران والسعودية وحلفائهما، متغطية بستار مذهبي طائفي سني ــ شيعي، له خلفيات دولية واضحة فأمريكا تتخذ جانب السنة وروسيا تتخذ جانب الشيعة على نحو عام، عدا إشكالية العراق الشيعي المدعوم أمريكياً في الوقت الحاضر، وهذه مفارقة سنحللها لاحقاً.
كان شعار داعش السحري الفتان والجذاب هو:" باقية و تتمدد" ولقد تحول هذا الشعار إلى منهج لتطبيقه وهدف تسعى دولة داعش لبلوغه خاصة بعد استيلائها على الموصل والرقة والأنبار وصلاح الدين ودير الزور وغيرها من المدن العراقية والسورية وإعلان دولة الخلافة التي حضت باعتراف عدد من الحركات السلفية الإرهابية المتشددة التي قدمت لها البيعة وأسست ولايات تابعة لدولة الخلافة الداعشية في أفريقيا وآسيا وأوروبا وسيناء في مصر ومنطقة الخليج واليمن وليبيا التي أعدت كمحطة للانسحاب التكتيكي في حالة الهزيمة العسكرية في الموصل والرقة الجارية الآن على قدم وساق. الخ.. هناك ترنيمة جديدة تنتشر بين أنصار داعش تقول لهم أن الدولة الإسلامية ليست بالضرورة دولة أراضي وفضاءات وأماكن جغرافية فهي تتقلص يوماً بعد يوماً جغرافياً وميدانياً لكن أتباعها منتشرون في كل مكان فهل ستبقى على قيد الحياة رغم هزائمها العسكرية؟ فهناك منشور ظهر في تلعفر في العراق يقول " أن الخلافة لن تختفي " وأضاف البيان الداعشي:" ينسى كثيرون أن الدولة الإسلامية ليست بالضرورة دولة أراضي وفضاءات وأماكن جغرافية بل هي غاية بذاتها تهدف إلى نشر الإسلام الحقيقي وإعادة وهج الجهاد في سبيل الله وترميم ما تدمر داخل الأمة الإسلامية بعد الهزائم والانحطاط والإهانة التي وجهة لأمة الإسلام على يد قوى الكفر والاستكبار العالمي، وكما جاء على لسان الناطق الرسمي السابق المقتول أبو محمد العدناني في أيار 2016 الذي استشهد بالانسحاب التكتيكي الذي قامت به الدولة الإسلامية نحو الصحراء في أعوام 2007 و 2009. فالهزيمة تتجسد في الواقع عند ذهاب الإرادة والرغبة في القتال، وهذه ليست حال مجاهدينا، وسوف تنتصرون أيها الأمريكيون والغربيون عندما تنجحون في إخراج القرآن من قلوب المجاهدين وهذا مستحيل". يتناقض ذلك مع زهوة الانتصارات التي لوحت بها في أعوام 2014 و 2015 لجذب المتطوعين الأجانب وحثهم على الهجرة إلى دار الإسلام في دولة الخلافة في العراق والشام ليساهموا في بنائها وتدعيمها وحمايتها والقتال تحت رايتها والاستشهاد في سبيلها لكسب الجنة ولقاء محمد مؤسس الرسالة وصاحب دولة الخلافة الإسلامية. واليوم بات من الصعب تأمين دخول المقاتلين المتطوعين القادمين من كافة بقاع الأرض للالتحاق بصفوف مجاهدي الدولة الإسلامية في ظل التشديد والرقابة الصارمة التي تبديها تركيا التي كانت في السابق تغض النظر عن عمليات تهريب وعبور المتطوعين العرب والأجانب باتجاه سوريا والعراق. والحال إن تدهور أوضاع الدولة الإسلامية وخساراتها للأراضي الشاسعة ومعسكرات التدريب وتخلخل نظامها المالي والإداري، مما يضعها في حالة صعبة فاقدة للمصداقية عندما تتكلم عن مشروع الدولة المتكاملة وهو مفتاح شعبيتها إزاء باقي التشكيلات الإسلاموية المسلحة المنافسة لها على أرض الميدان لا سيما القاعدة في العراق وجبهة النصرة في سوريا التابعة للقاعدة الأم مما كبح على نحو ملحوظ وملموس التدفق الجنوني للشباب المتطوع في صوف داعش في السنتين الماضيتين.
ولكن من الوهم والخطأ تصور أن الدولة الإسلامية في العراق والشام سوف تتبخر في أعقاب هزيمتها العسكرية في الموصل والرقة واندحارها جغرافياً فما يزال بوسع قيادات داعش وعناصرها المتشبثة بالأهداف العليا للخلافة أن يعيدوا انتشارهم في الصحاري المحاذية بالقرب من الحدود السورية العراقية حيث يمكن للنواة القيادية الداعشية أن تتحرك وتناور حتى لو فقدت السيطرة على المدن التي احتلتها في الأشهر الماضية فليس بديهياً أن تتمكن قوات التحالف الدولية والقوات المحلية المتحالفة معها أن تنظف وتؤمن هذه المناطق الواسعة التي يمكن أن تتحول إلى ملاجئ للانسحاب التكتيكي مرة أخرى إلى جانب مدن أخرى لا تزال في قبضة داعش في ليبيا واليمن وأفريقيا وسيناء، وهي قادرة أيضاً على الإيذاء والتدمير من خلال خلاياها النائمة كما رأينا ما قامت به في أمريكا وأوروبا وأفريقيا. ففي محافظة ديالى حكمت داعش سنتين فقط قبل خسارتها للمحافظة لكن التقارير تؤكد وجود خلايا نائمة كثيرة موالية لداعش في هذه المنطقة وتقوم باستمرار بهجمات إرهابية خاطفة وتفجيرات وغارات على مواقع عسكرية مستثمرة تلك الهوة الطائفية التي خلقتها ونمتها في المنطقة بذريعة محاربة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وبإمكانها العودة على نحو سري إلى مدن خسرتها عسكرياً لكنها ماتزال موالية لها مثل تكريت وغيرها الممتعضة من سوء معاملة السلطة المركزية وشكوكها تجاه السكان السنة وفرض السيطرات والازدحامات وسوء المعاملة والإهانات التي يتعرض لها سكان تلك المناطق التي كانت قبل أشهر تحت قبضة داعش خاصة وإن الانتحاريين في داعش يعرفون نقاط الضعف والخلل في السيطرات ويهاجمونها مباغتة ويحدثون فيها الكثير من الضحايا والدمار المادي والمعنوي والخسائر البشرية، كما يقومون بشراء الذمم من أجل إطلاق سراح السجناء والمعتقلين الداعشيين في السجون العراقية من خلال الفاسدين في القوى الأمنية العراقية وبوسع الدواعش الذوبان بين السكان المدنيين في العراق ومعاودة الضرب كلما سنحت لهم الفرصة.
وحتى في سوريا أثبتت داعش قدرتها على خوض عمليات نوعية في الداخل السوري بالقرب من العاصمة في الغوطة وفي المدن التي تسيطر عليها قوات النظام السوري كما لمسنا في عمليات حلب وغيرها. كما تستثمر داعش الاحتقانات والاصطفافات الطائفية والدينية والإثنية والعرقية والمذهبية في العراق وفي بعض المناطق السورية فالتمرد السني السوري على السلطة العلوية يجد في داعش وجبهة النصرة الممثل الشرعي المسلح القادر على حماية الأغلبية السنية المضطهدة كما يدعون وليس بوسع منافسيها على الأرض احتلال مكانها على أرض المواجهات المسلحة. فحتى بعد فقدانها لنواتها الجغرافية أي عاصمتها الدينية في الموصل وعاصمتها الإدارية في الرقة، فإنها ستظل تعمل بكل وحشية وقسوة وتضرب في كل مكان تصل إليها عناصرها في آسيا وجنوب شرق آسيا وفي الشيشان وروسيا ومدن الغرب.
داعش كيان متعدد الأوجه والأشكال
يسود الفرح والأمل والتفاؤل وسائل الإعلام العراقية والسورية وبعض المؤسسات الإعلامية العربية والدولية وهي تنشر وتتناقل أخبار أفول واندحار داعش في الموصل وقريباً في الرقة فهل يقتصر وجود داعش على مدينتين فقط رغم ما يتسمان به من رمزية باعتبارهما عاصمتي دولة الخلافة الداعشية الدينية والاقتصادية؟ داعش تركيبة إرهابية تنظيمية سرية تغذي وتحرض انتفاضات وتمردات عسكرية مسلحة محلية وإقليمية هنا وهناك في كل مكان في العالم ويتوقع أن تنضم إليها وتقدم لها البيعة أغلب التشكيلات والحركات الإرهابية المسلحة النشطة على الساحة الجهادية الإسلاموية الإرهابية. لقد كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما صادقاً مع نفسه عندما صرح في أيلول 2014:" لا أريد أن أضع العربة قبل الثيران، وعلى أن أعترف بأننا لا نمتلك بعد إستراتيجية واضحة ومحددة حيال داعش " في الوقت الذي قامت هذه الأخيرة باحتلال مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية". لم يدرك الغرب في التوقيت الصحيح أن هناك خطر وتهديد يتبلور في الأفق يمكن أن يدمر كل شيء ولن يستطيع أحد السيطرة عليه أو إيقافه فسوف يكون الأوان قد فات. يعتقد القادة العسكريون في العالم والحكام والزعماء والسياسيين أن القضاء على داعش يمكن أن يتم بالقضاء على قيادة هذا التنظيم الإرهابي وإبادة أو تصفية كوادره العليا. القيادة العليا لداعش تبدو ظاهرياً موحدة لكنها غير متجانسة بالمرة، فكلما يقتل قيادي يحل محله خمسة أو عشرة قد يكونوا أفضل منه كفاءة وجرأة وخبرة عسكرية، والحلقة القيادية الضيقة المحيطة بأبو بكر البغدادي، عراقيين وسوريين، يكتفون بإعطاء التوجيهات العامة، وليسوا وحدهم من يقوم بذلك، وأغلبهم جاء من التيار السلفي السني المتشدد والتكفيري الذي نشأ في العقود الأربعة الماضية وتغذى على أطروحات الوهابية وإبن تيمية والمذهب الحنبلي، وتمرس ميدانياً على خوض حرب العصابات في المدن منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بل وحتى قبل ذلك منذ تجربة الجهاد المسلح ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، ولا ننسى أن أغلب قيادات داعش الحاليين كانوا من معتقلي سجن بوكا الأمريكي وكانوا يتمتعون بحرية تامة في تنظيم أنفسهم داخل السجن وتهيئة الكوادر والمقاتلين، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي الخليفة الداعشية الذي فرض نفسه بالقوة والكثير منهم مارس الإرهاب الجهادي في صفوف تنظيم القاعدة الإرهابي وداخل تنظيمات الطالبان في أفغانستان. وحول هؤلاء تتشكل حلقات يصل تعدادها بالآلاف من المتطوعين الدوليين من كافة الجنسيات العربية والآسيوية والأوروبية والشيشانية والطاجاكستانية والبوسنية والتركية والباكستانية والأفغانية الخ.. والحال أنه لا توجد وحدة جغرافية متصلة لدولة الخلافة الداعشية فلديها ولايات متفرقة منتشرة في كافة أنحاء العالمين العربي و الإسلامي وأوربا وأمريكا وآسيا وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا، وكلها تدين بالولاء للخليفة أبو بكر البغدادي طواعيةً وليس قسرياً. وهناك الكثير من قيادات داعش العراقية ممن تسربوا مع اللاجئين والنازحين المدنيين وسوف يعيدون تنظيم خلايا سرية نائمة في كل مكان في العراق للقيام بعمليات إرهابية وتفجيرات وهجمات انتحارية. يتبع
التعليقات