في الآونة الأخيرة وبعد أن أغمضت روسيا أعينها عما يحدث على تخوم عفرين من القصف التركي المتكرر بعد مواءمة المصالح بين روسيا وتركيا، شَعَر بعض أنفار الإدارة الذاتية في كانتون عفرين بأن الروس خدعهم، علماً أن النشطاء ومثقفو المنطقة ولعشرات المرات لمّحوا لدهاقنة الكانتون قائلين: إن مَن يركب على جواد غيره سيبقى راجلاً، وأنه قبل فوات الأوان على المتّكل الاعتماد على ما يمتلك من القوة البشرية، ويكسب ود الحاضنة الشعبية قبل أيٍّ كان من القوى الدولية أو الاقليمية التي يعوّل عليها، وأنه من المفروض على الإنسان السوي أن تكون فائدته الحقيقية عائدة لأهله وناسه قبل الغرباء الذين سرعان ما يتحولون إلى غرماء بسبب موقفٍ سياسيٍّ ما أو تضاربٍ في المصالح الاقتصادية، وأن العاقلَ العاقل لا يجعل من أضلاع أولاده سلالم لعبور من ينكرون فضل السُلّم وصاحبه.
إذ أن الحُماة المفترضون ومنذ أكثر من ثلاث سنوات يدفعون بالشباب الكرد ليكونوا أحطاب في مواقد الجيران، الجيران الذين حقيقةً استفادوا جداً على مدار السنوات الماضية من القرابين المستقدمة من المناطق الكردية، ولكنهم مع ذلك ينكرون فضل أولئك البشر عليهم، وذلك باعتبار أنهم في مقام الغرماء بالنسبة لهم، كحال السمك الذي يأكلونه ويشتمونه، فهم يتغذون من لحمه ولكنهم لا يخفون تذمرهم وامتعاضهم من الحَسَك الذي فيه، لذا يسارعون إلى شتم السمك حتى لا يقروا بفضله عليهم، علماً أن السمك من الناحية الغذائية يمد أبدانهم بالبروتين، واليود، والكالسيوم، والفسفور.
وفيما يخص مداواة العلل الآنية بالعقاقير الغابرة، أو إيجاد وصفةٍ ما من تراث السلف تناسب الوقائع الراهنة، نرى بأنه ليس بالضرورة أن نستقصي الحكمة ونتحرى عنها في أقاصي المعمورة حتى نعالج إشكاليات راهننا بها، وليس مفروضاً علينا العودة في كل مرة إلى قصص إيسوب الإغريقي أو حكايا كليلة ودمنة الهندية لنقرأ الحاضر على ضوئها، إنما قد تكون ثمة قصة أو حادثة بين أيدينا تفي بالغرض أكثر من المواعظ المستوردة، وذلك باعتبار أنها تمثل نبض الواقع، ولعلها تكون أبلغ من عشرات الحِكم المستجلبة من أقاصي الكون بكونها خرجت من نفس التربة، لذا ففيما يتعلق بتجربة الحُماة الحاليين في كانتون عفرين المعنيين جداً بإرضاء كل الأطراف الخارجية على حساب الطرف الداخلي الذي هو أصلاً المعين والقاعدة والأرضية والحاضنة التي من المفروض أن ينطلق منها الحزب أو الجهة إلى باقي بقاع الأرض، تحضرني حيال ذلك الأمر قصة طائرٍ اتخذ من شجرة عالية في قرية تابعة لمنطقة عفرين تدعي كوردان مأوىً له، وحيث كان كبار السن في القرية ك: محمد إيبش الملقب بـ: (كاكو) وحمو أحمد بسه والشيخ محمد عمر أحمد ومحمود أحمد عمر المعروف باسم (أبو عبدو) يقصون علينا عن الطائر الغريبِ تصرفاتَ مدهشة تستدعي النظر والتأمل، حيث كان أهل القرية كلهم يلاحظون الأرياش مرمية تحت شجرة السرو التي اتخذ الطائر من أعاليها مكاناً لإقامته، ولكن لم يشكو أحد ولا سمع أو رأي أحد من أبناء القرية بأن علم أو لاحظ بأن الطائر اعتدى في يوم من الأيام على أية دجاجة من دجاجات وديوك القرية بالرغم من رؤيتهم الطائر وهو يمسك بين الفينة والأخرى بإحدى ضحاياه بين مخالبه ويهبط مع المحمول إلى الشجرة، إذ كان تصرف الطائر محط استغراب كل أهل القرية حيث أنهم يشاهدون دجاجات القرية وهن متنقلات جيئةً وذهابا في ظل تلك الشجرة، ولكن الطائر الذي يتغذى من لحوم الدجاج لم يكن ليقترب من دجاجات أو ديوك القرية، وعلم الجميع بأن الطائر يقوم بالغزو في مضارب القرى المجاورة ويأتي بفريسته من لدنهم، ومع الأيام انتشر خبر الطائر وصار محط جدالٍ بين أهل القرية وبعض صيادي القرى المجاورة لقرية كوردان، حيث عقد بعضهم العزم على قتل الطائر الذي يغزو مواضع دواجنهم، حيث أراد أحد صيادي قريةٍ مجاورة النيل من الطائر وتصفيته، إلا أن القرية كلها هبت للدفاع عن الطائر ولم يسمحوا لأحد من رجالات القرى المجاورة بأن يقتلوا ذلك الجارح الغريب إلى أن غادر الشجرة والقرية برمتها من تلقاء ذاته.
وجليٌ بأن الحكمة من تصرف الطائر الجارح ومن هذه القصة برمتها لا تحتاج إلى الشرح والتفسير الطويلين، حيث يظهر مدى حرص الطائر على أشياء القرية التي آوى إليها واتخذها موطناً له، وكيف أدرك الطائر غريزياً بأن عليه أن يكون حريصاً على أشياء وحياة كائنات القرية؟ علماً أن طائر قرية كوردان لم ينتمي يوماً إلى عالم السياسة، ولا ادّعي بأنه يحمل أيديولوجية معينة، ولا كانت له نظرية أممية يسير على نهجها، ولا انتسب لجمعيات الرفق بالأنام، ولا كان ذا تفكير عشائري يمنعه من أذى أقربائه، إنما كان مجرد طائرٍ ينتمي إلى عالم الجوارح وليس كائناً بشرياً يتبجح بالسفسطة الإيكولوجية كما هو حال الكثير ممن يدعون بأنهم حُماة المنطقة، الذين وعلى العكس من ذلك الطائر يفتدون المناطق المجاورة بزهرات القرى الكردية، وربما هم على استعدادٍ دائم لأن يفتدوا كل سوريا بأرواح المئات من شباب القرى التي يدّعون بأنها منهلهم ومأواهم وقاعدتهم وحاضنتهم الشعبية الأولى والأخيرة!!!.
وبتصوري لو كان الطائر يجيد النطق مثل أهل القرية لقرأ عليهم مزاميره قبل مفارقتهم قائلاً لهم: ((Ewî xêrê bi xwediyê xwe û yên dor xwe nekê bi xelkê jî nakê )) بمعنى أن مَن لا خير فيه لأهله ومن كانوا حوله وفي محيطه لن يكون ذا فائدة للآخرين أيضا.
ــــــــ
كوردان: قرية جبلية صغيرة تتبع ناحية جنديريس التابعة بدورها إلى منطقة عفرين المحسوبة إدارياً على محافظة حلب السورية.
- آخر تحديث :
التعليقات