خرجت معظم الجامعات العربية إن لم يكن جميعها من فضاء الجامعات العالمية التي تحقق أعلى معايير الجودة وتمد بلدانها بخريجين على أعلى المستويات العلمية والإبداعية التي تمكنهم من تحقيق التقدم الصناعي والتكنولوجيات المتقدمة والتي ينفق العرب المليارات لشرائها والاستفادة منها، بينما الطالب العربي لايزال يتحرك في المكان الذي وقفت فيه الجامعة، وفقدت القدرة على التحرك للأمام. ها وسوف نبدأ هنا الاستعانة بالمجهر لكشف أحد أهم أسباب التدهور الا وهي القيادات الجامعية (رئيس جامعة، ونوابه، عمداء الكليات والوكلاء، رؤساء الأقسام) وفي مقالات قادمة بإذن الله نضع تحت المجهر الأستاذ الجامعي والطالب.
في الحقيقة لا أجد كلمات تعبر عن دهشتي من جراء عقد الندوات والمؤتمرات وصياغة القوانين وسن التشريعات التي يعتقدون أنها تصلح التعليم ليقدم منتج تعليمي جيد. والسبب في هذه الدهشة أن الذين يحاولون إصلاح التعليم ويبحثون عن الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الهدف النبيل لم يقدموا أية مقترحات بشأن إصلاح القيادات الجامعية الحالية وطرق اختيار القيادات الجامعية التالية والتي ستتولى تنفيذ برامج الإصلاح والجودة. سيقول أحدهم أن الجامعات قد بدأت بالفعل في إنشاء الهيئات المسئولة عن الجودة والاعتماد. نعم كنا نأمل أن تأتي هذه الهيئات بعض الثمار إلا أن الحقيقة المرة من وجهة نظري هي أن هذه الهيئات والتي تنفق الملايين من ميزانية الدول هي في الواقع بمثابة نوع من التسلية ومضيعة للوقت وأرشفة بعد الملفات طبقاً لتصريحات كثيرة نشرت في السوشيال ميديا وفضاءات إعلامية أخرى؛ إذ أن الذين يقومون بتنفيذ برامج الجودة التعليمية نادراً ما يكونوا من المتخصصين في هذا المجال وكان الحل المتوقع أن يتم دعوة الخبراء والمتخصصين من كل أنحاء العالم للقيام بهذه المهمة على الوجه الأكمل إذا كنا ننوي فعلاً وبإرادة قوية إصلاح حقيقي للجامعات العربية وللتعليم بصفة عامة.
ومن وجهة نظري واستناداً على بعض الخبرة في العمل الإداري داخل الجامعة أستطيع القول إن القيادات الجامعية التي تتولى قيادة السفينة العلمية في الجامعات العربية والمنوط بها وضع استراتيجيات التعليم وتطويره لتتواكب مع التطور المذهل الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية، لا تملك برنامج أو رؤية واضحة لوضع الأهداف المرجوة وآليات تنفيذها.
أرجو ألا تخونني الألفاظ والتعبيرات إذا شبهت الجامعة الآن بسفينة تسير في عرض البحر لا يعلم قبطانها إلى أين تتجه السفينة، وما هي المخاطر المتوقعة، وسبل النجاة منها، فالمهم أن السفينة تبحر والسلام. هذه الأيدلوجية الجامعية العشوائية أو إذا شئت هذا التشرد الإداري نجده صفة غالبة في الكثير من المؤسسات والإدارات والمصالح الحكومية المختلفة بصفة عامة، غير أن التشرد الإداري في الجامعة يتميز ببعض المظاهر المتفردة. دعنا نصف هذه الظاهرة الخطيرة وصفاً تفصيلياً حتى نتمكن من إيجاد الحلول المستقرة.
فالملاحظ أنه عند تولي عضو هيئة التدريس لمنصب قيادي أن يبدأ سيادته على الفور في التعامل مع الجامعة أو الكلية على أنها "مصلحة حكومية ". فنجد القليل الذي يتعامل معها باعتبارها " مؤسسة تعليمية علمية " أي كيان عامل وفعال في جسد الدولة المسئول عن إمداد الوطن بالمواطن الصالح والمتخصص الكفء المنوط به الابتكار والإبداع في عصر الثورات العلمية الذي نعيشه، وبحيث يكون هذا الخريج قادراً على صنع الرخاء والرفاهية لبلاده وأهلة وللإنسانية جمعاء.
على العكس فالكثير من القيادات الجامعية تتعامل مع الجامعة على أنها “مصلحة" جاءت به الأقدار أو المحسوبية للمنصب ولذلك فسيادته لا يهتم حتى بالشكل العام ويبتعد بقدر الإمكان من مجرد محاولة أي إصلاح حقيقية للفساد والإهمال الإداري والعلمي والبحثي معتقداً أن محاربة الفساد لن تأتي بأية ثمار مطلوبة غير فتح أبواب المشاكل وهو بالتأكيد في غنى عنها وبالتالي فإنه لا يهتم بوضع استراتيجيات وخطط حقيقية للتنفيذ لمعالجة القصور والأخطاء ومحاولة الارتقاء والنهوض بالجامعة على جميع الأصعدة. في هذه الفلسفة يحاول العضو القيادي بالطبع أما تفصيل أو ترقيع إن جاز القول قرارات تضمن له بقاء الجامعة او المؤسسة التعليمية في الصورة والوضع الذي يتفق مع رغباته حتى ولو تعارض ذلك مع المصالح العامة للبلاد.
وفي هذا المناخ المعتل نجد العضو القيادي ينجح في الحصول على مكاسب شخصية عن طريق المجاملات وعلاقات تبادل المصالح دون الالتفات إلى عمليات التطوير في المناهج واللوائح ووضع رؤى جديدة للنهوض والارتقاء، كما نجده لا يعير أي اهتمام بأية تجاوزات داخل المؤسسة التعليمية مستنداً إلى بعض الأقوال الانهزامية التي ألقت بها الأمم المتقدمة منذ زمن بعيد في سلة المهملات" هو أنا اللي حغير الكون"، " هي ديه الإمكانيات المتاحة"..
في الواقع أن تلك القيم السلبية للتشرد الإداري تعيق التقدم والتنمية المنشودة ليس فقط على مستوى الجامعة ولكن على مستوى الوطن ككل باعتبار أن الجامعة هي عقل الوطن ومركزه بل ومعمل أفكاره.
نعم إن هناك الكثير من الفيروسات والمخاطر التي تهاجم الجامعة ويمكن أن تتسبب في تدميرها نتيجة الضعف والهزال الشديد والوهن حتى فقدت مكانتها على خريطة الجامعات العالمية.
لكن إذا كنا نريد فعلاً حلولاً لهذه القضية المصيرية وإذا كانت الإرادة حاضرة عندنا فيجب أن تتحد الإرادة السياسية مع الإرادة المجتمعية بطريقة أو بأخرى من أجل تحقيق ذلك الهدف النبيل، وعندئذٍ يكون الطريق مفتوح للجامعات العربية لكي تلحق بركب التقدم الذي حرمنا منه بإرادتنا أو بغير إرادتنا.
أقترح في الوضع الراهن حيث قوى الدفع الذاتي العربي متعثرة ومتضادة وغير قادرة بسبب ضعف الكيف أن تستعين الجامعات العربية بخبراء وعلماء أجانب كما تفعل كل دول العالم المتحضر يتم تدعيم الجامعات بهم للقيام بمهمة وضع قطار التعليم والبحث العلمي على مساره الصحيح، ثم بعد ذلك تشغيل القاطرة لتبدأ عملية الحركة في الاتجاه المنشود.
[email protected]
التعليقات